فائدة: استدلال غير مشهور على قولهم: النكاح خير مِن نفل العبادة وبيان أن إعفاف الزوجة والنفقة على العيال من أعظم ما يحتسب به الأجر…
قال ابن قدامة في «عمدة الفقه»: “النكاح من سنن المرسلين وهو أفضل من التخلي منه لنفل العبادة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد على عثمان بن مظعون التبتل”.
أقول: حديث عثمان بن مظعون يدل على تحريم التبتل، غير أن هناك أدلة تدل على أن القيام بحق الزوجة والأولاد آكد من نفل العبادة.
قال البخاري في صحيحه: “1968- حدثنا محمد بن بشار، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا أبو العميس، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: آخى النبي ﷺ بين سلمان، وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذِّلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال: كل؟ قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال: سلمان قم الآن، فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي ﷺ، فذكر ذلك له، فقال النبي ﷺ: «صدق سلمان»”.
فهنا سلمان الفارسي رأى أبا الدرداء معتزلاً زوجته، متفرغاً للعبادة صائماً النهار قائماً الليل، وفي ذلك أجر عظيم.
فنهاه، وكان في نهيه التعليل بأن لأهله عليه حقاً، وهو يشير إلى حالة أم الدرداء لمَّا كانت متبذِّلة لإعراضه عنها (وذلك قبل نزول الحجاب).
وصدَّق النبيُّ ﷺ كلامَ سلمان.
ولا يكون للأهل حق حتى يتزوج المرء، والأمر نفسه في أمر الزوجة ألا تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه، وما كان الشارع ليفوت عليها أجر صيام النافلة وهو عظيم، إلا ويرشدها إلى ما هو آجر.
فاحتساب الزوجين في إعفاف بعضهما والقيام بحقوق بعضهما آجر من نفل العبادة، غير أن هذا يتم لمن احتسب الأجر في ذلك.
وقد لاحظ هذا المعنى متقدمو الصوفية.
قال أبو نعيم في «الحلية» [8/20]: “حدثنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن أيوب، ثنا عبد الله بن الصقر، ثنا أبو إبراهيم الترجماني، ثنا بقية بن الوليد، قال: لقيت إبراهيم بن أدهم بالساحل فقلت: أكنيك أم أدعوك باسمك؟ فقال: إن كنيتني قبلت منك وإن دعوتني باسمي فهو أحب إلي، فقال لي: يا بقية كن ذنبا ولا تكن رأسا، فإن الذنب ينجو والرأس يهلك، قال: قلت له: ما شأنك لا تتزوج؟ قال: ما تقول في رجل غر امرأته وخدعها؟ قلت: ما ينبغي هذا، قال: فأتزوج امرأة تطلب ما يطلب النساء لا حاجة لي في النساء، قال: فجعلت أثني عليه، قال: ففطن، فقال: لك عيال؟ فقلت: نعم، قال: روعة عيالك أفضل مما أنا فيه”.
يريد إبراهيم أن قيامك بحقوق عيالك وزوجك خير من توسعي في العبادة.
وقال البخاري في صحيحه: “5353- حدثنا يحيى بن قزعة، حدثنا مالك، عن ثور بن زيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة، قال: قال النبي ﷺ: «الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار»”.
والسعي على الأرملة والمسكين مستحب، والسعي على الأهل واجب، والواجب خير من المستحب، وقد جعل السعي على الأرملة والمسكين كقيام الليل وصيام النهار، ولهذا من عظيم فقه البخاري إيراده هذا الحديث تحت باب «فضل النفقة على الأهل».
وليس معنى هذا أن نترك نفل العبادة أو نتهاون في الأجر المترتب عليه، بل معناه أن نحتسب في كسب الحلال، وإنفاقه بلا تبذير، وأن نحتسب بالقيام بحقوق الأهل، فمن بنى حياته على مراقبةِ الله عز وجل ورجاءِ تحصيل الثواب، بورك له، ومن بناها على الرياء والسمعة وتقليد الكفار وأهل الدنيا، استحال نعيمها عذاباً عليه.