قاعدة في تسليط العدو بالذنوب وأن ذلك لا يعني تبرير ما يفعل العدو

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال الله تعالى: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا}.

لا يختلف المفسرون أن هذه الآية نزلت في تسليط ملك كافر على بني إسرائيل وقد فعل بهم الأفاعيل.

وما كان ذلك إلا لذنوب ألموا بها واشتدوا في ذلك؛ فسلط الله ظالماً على ظالم، فأما الظالم الأول فمستدرج، وأما الظالم الثاني فهذه له موعظة لعله يرجع.

ومثل هذا لا يعني تبرير ما يفعل الظالم، فإنما هو حكم كوني، ووجود الشيء كوناً لا يعني أنه جائز شرعاً.
مثل الرجل يزني بامرأة فيأتي من يزني بأهله، فيقال: (هذه بتلك) عبرة؛ لئلا يتكرر الأمر.
ولكننا في الوقت نفسه نعاقب الزاني الأول والثاني، ولا يكون قولنا اعتباراً فيه إسقاط للإثم أو العقوبة عن الثاني.

ومن هذا الباب ما صح أن عمر وعليا دعيا على أهل العراق بتسلط الحجاج عليهم؛ لما رأوا من نفورهم عن الطاعة وكثرة الشغب (لأنهم علموا من النبي صلى الله عليه وسلم بأصل وجود المبير الثقفي) فدعوا بتعجيله.

قال ابن تيمية في (منهاج السنة):
“ونفذ فيهم دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم دعاء علي بن أبي طالب حتى سلط الله عليهم الحجاج بن يوسف، فكان لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم، ودب شرهم إلى من لم يكن منهم حتى عم الشر”.

ولا أحد يفهم من هذا تبرير حال الحجاج وإخراجه عن حد الظلم، ولكن لبيان سبب التسليط لئلا يتكرر.
وهذا نظير قولنا في رماة أحد -وإن كان حالهم أحسن من حال كل المذكورين-: أنه بسبب مخالفتهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وقع ما وقع، فليس في ذلك أي تبرير أو وقوف مع أهل الشرك ولا دعوة لعدم مجاهدتهم.

ولهذا ابن تيمية وهو من أشد الناس على التتر كان يقول: إنهم لهذه الأمة كبختنصر لبني إسرائيل (وهو الملك المشار إليه في سورة الإسراء)، فلم يكن قوله هذا تبريراً لجرائم التتر ولكن لبيان المعالجة الجذرية للأمر،
فنعم نجاهدهم، ولكن ننظر في سبب تسلطهم علينا ابتداء ونزيله من الجذور.

وفي حديث ثوبان في (صحيح مسلم) عن النبي صلى الله عليه وسلم:
((وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، -أو قال: من بين أقطارها- حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا)).

فهذا سبب تسلط العدو: أن المسلمين إذا بدأ بعضهم ببعض وأسقطوا عصمة بعضهم رفع الله عنهم العصمة من الأعداء، فلو ذكرنا هذا على أنه سبب فليس معناه الدعوة إلى ترك مجاهدة الأعداء أو حتى الشماتة بمصاب الأمة، بل بالعكس هذا يدل على أننا نريد معالجة جذرية للموضوع.

كل هذه النماذج مقبولة تماماً عند الناس، ولو أن طفلاً خطف فصرنا نتكلم عن ألا تترك أولادك يخرجون لوحدهم في الساعة الفلانية والساعة، فإن ذلك في الغالب سيقبل وسيحمل على الحرص.

ولكن في موضوع التحرش بالذات تنقلب الموازين، ويصير استخدام مثل المنهجية السابقة المشار إليها أمراً يثير الحفيظة عند كثيرين، حتى إن بعضهم يفترض المعارضة بين قولنا: (كما تدين تدان) وقولنا: التبرج والاختلاط المنفلت ونمط الحياة المتغرب فتح باباً للتحرش،
هذا نظير من يفترض التعارض بين قولنا في الزنا بالتراضي: (أترضاه لأمك) وقولنا: التبرج والخلوة المحرمة من أسباب تسهيل الزنا.
= هذا باب وهذا باب، واطرد هذا في كل الأمثلة السابقة.

ومع الأسف الأنظمة المناعية للتدين -إن صح التعبير- عطلت بمكر شديد من أهل النفاق {وفيكم سماعون لهم} معاشر المؤمنين الطيبين.

فكان هناك شيء اسمه: (الورع وترك المشتبهات) {فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه} هذا دمر باسم مراعاة الخلاف، مهما كان الخلاف شاذاً وضعيفاً.

وكان هناك شيء اسمه: (المنافقون) قال الله فيهم: {هم العدو فاحذرهم} وقال فيهم: {ولتعرفنهم في لحن القول} هؤلاء المنافقون وفرت لهم تروس عظيمة بحجة حمل الكلام على أحسن المحامل وعدم الحكم على الآخرين (مهما كان الكلام محملاً بقرائن الإدانة، ومهما كان ظاهراً دالاً على الباطل، فكأنك تتعامل مع نص معصوم).

وإكمالاً للجناية على الدين صار كل من يتمسك بأصول الشريعة متشدداً، وصار المتشدد هو المذموم الوحيد، فأهل النفاق والباطل منهم في سلامة، وأهل الحق منهم في شقاء، حتى صاروا تروساً يتترس بها أهل الباطل.