قال ابن القيم في «إغاثة اللهفان» [2/1034]: “ثم استمر الأمر على عهد نبوّة موسى كليم الرحمن على التوحيد وإثبات الصفات، وتكليم الله لعبده موسى تكليمًا، إلى أن تُوفي موسى عليه السلام، ودخل الداخل على بني إسرائيل، ورفع التعطيلُ رأسه بينهم، وأقبلوا على علوم المعطلة أعداءِ موسى عليه السلام، وقدّموها على نصوص التوراة، فسلط الله تعالى عليهم مَنْ أزال مُلكهم، وشرّدهم من أوطانهم، وسبى ذراريَّهُم، كما هي عادته سبحانه وسُنّتُه في عباده إذا أعرضوا عن الوَحْي، وتعوّضوا عنه بكلام الملاحدة والمعطلة من الفلاسفة وغيرهم.
كما سَلّط النصارى على بلاد الغرب لمّا ظهرت فيها الفلسفة والمنطق، واشتغلوا بها، فاستولت النصارى على أكثر بلادهم، وأصاروهم رعيَّة لهم.
وكذلك لما ظهر ذلك [154 ب] ببلاد المشرق سلّط عليهم عساكر التتار، فأبادوا أكثر البلاد الشرقية، واستولوا عليها.
وكذلك في أواخر المئة الثالثة، وأول الرابعة، لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد سَلَّط عليهم القرامطة الباطنية، فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات، واستولوا على الحاجّ، واستعرضوهم قتلًا وأسرًا، واشتدت شوكتهم، واتُّهِمَ بموافقتهم في الباطن كثير من الأعيان من الوزراء، والكتّاب، والأدباء وغيرهم، واستولى أهلُ دعوتهم على بلاد الغرب، واستقرت دار مملكتهم بمصر، وبُنِيت في أيامهم القاهرة، واستولوا على الشام والحجاز واليمن والمغرب، وخُطب لهم على منبر بغداد.
والمقصود أن هذا الداء لمَّا دخل في بني إسرائيل كان سبب دمارهم وزوال مملكتهم”.
قول ابن القيم: “كما سَلّط النصارى على بلاد الغرب لمّا ظهرت فيها الفلسفة والمنطق، واشتغلوا بها، فاستولت النصارى على أكثر بلادهم، وأصاروهم رعيَّة لهم” يقصد بها الأندلس.
وقد تصحفت في عدد من الطبعات -حتى طبعة دار عالم الفوائد- إلى (بلاد العرب)، وهي (بلاد الغرب)، ويقصد بها الأندلس كما يدل عليه سياق الكلام.
وكما في قول ابن حزم:
أنا الشمس في جو العلوم منيرة … ولكن عيبي أن مطلعي الغربُ
كلام ابن القيم هذا ليس غفلة عن الأسباب الدنيوية لهذه النكبات السياسية، فهو على دراية بها.
فأنت تراه يقول في كتابه «الجواب الكافي»: “وأصل فساد العالم إنّما هو من اختلاف الملوك والخلفاء. ولهذا لم يطمع أعداء الإِسلام فيه في زمن من الأزمنة إلا في زمن تعدّد ملوك المسلمين واختلافهم وانفراد كل منهم ببلاد، وطلب بعضهم العلوّ على بعض”.
ولا تعارض بين الأمرين.
ولا قال ما قاله شماتة بالمسلمين والعياذ بالله، وإنما يتكلم أهل العلم بمثل هذا حتى لا تتكرر المأساة، وهذا أمر معروف في عموم الأمم، أنهم إذا حصلت أزمة يبحثون في أسبابها حتى لا تتكرر.
وتعليل ابن القيم هذا فرَّعه على تعليل شيخه ابن تيمية الذي كرر هذا المعنى مراراً.
حيث قال كما في «مجموع الفتاوى» [13/180]: “وكان بعض المشايخ يقول: هولاكو -ملك الترك التتار الذي قهر الخليفة بالعراق وقتل ببغداد مقتلة عظيمة جدا يقال: قتل منهم ألف ألف وكذلك قتل بحلب دار الملك حينئذ كان بعض الشيوخ يقول- هو للمسلمين بمنزلة بخت نصر لبني إسرائيل. وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع حتى أنه صنف الرازي كتابا في عبادة الكواكب والأصنام وعمل السحر سماه” السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم”.
وقال أيضاً في [4/104]: “وهذه الطائفة الأخيرة قد كثرت في كثير ممن انتسب إلى الإسلام من العلماء والأمراء وغيرهم لا سيما لما ظهر المشركون من الترك على أرض الإسلام بالمشرق في أثناء المائة السابعة.
وكان كثير ممن ينتسب إلى الإسلام فيه من النفاق والردة ما أوجب تسليط المشركين وأهل الكتاب على بلاد المسلمين. فتجد أبا عبد الله الرازي يطعن في دلالة الأدلة اللفظية على اليقين وفي إفادة الأخبار للعلم”.
فما سبب تشديد الشيخين في هذا؟
فيقال: إن نتاج الفلسفة إن كانت موافقة للشريعة فالإقبال عليها كالاتهام للشريعة بالقصور، وكثير من الناس يزعم أن القرآن والسنة ليس فيهما حجة على الكفار، وكأن القرآن ما بدأ خطابه مع الكفار!
قال تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون} [المرسلات: ٥٠].
وقال تعالى: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} [العنكبوت ٥١].
وإن كان نتاجها مخالفاً للشريعة لم يخلُ منتحلها أن يُبغض النصوص ويسعى في تحريفها أو احتقار حملتها، وهذا حال عامة القوم.
وأي شيء أجلب للسخط من أن يُنزِّل الله عز وجل عليك الهدى والنور والشفاء لما في الصدور فتتركه وتقبل على غيره إكباراً لهذا الغير واستقلالاً بالوحي.
فإن قيل: فكيف يُسلَّط علينا كفار لا يؤمنون بالوحي البتة؟
فيقال: تسلطهم عليك استدراج، فهم قوم مفروغ منهم، كما هو الشأن في بختنصر لما تسلط على بني إسرائيل، ولمن نزل عليهم الوحي وآمنوا به يكون إعتاباً لهم وتنبيهاً وعبرة.