لحظات كاد يتسلل فيها اليأس بين يدي الفتح والتمكين

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

في هذه الأيام التي يكاد يستولي اليأس والإحباط على قلوب كثير من المسلمين ينبغي أن نتفكر في أمر تكرر في القرآن، ومن تأمله وجده من عظيم دلائل النبوة ومن مفاتيح الأمل.

وهو تلك اللحظات التي اقترب فيها الكفار من البطش بأهل الإسلام، وزُلزل عند ذلك من زُلزل من المؤمنين ثم جاء فرج الله.

وهذه اللحظات ليست واحدة ولا اثنتين، بل عديدة وفي كل واحد منها لو وصل الكفار إلى مبتغاهم لتغير وجه التاريخ، ولكن الله غالب على أمره.

الموقف الأول: قال تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} [التوبة ٤٠].

فهذا موقف الغار لما كان المشركون قاب قوسين أو أدنى من البطش بالنبي ﷺ وصاحبه الصديق، وهنا الصديق تسلل الحزن إلى قلبه لما انطبع فيه ذلك الخاطر من احتمال وقوع الأذية على النبي الكريم ﷺ، فثبته النبي ﷺ وقال: (لا تحزن إن الله معنا)، وتلك المعية ما فارقتهم قبلها ولا بعدها.

الموقف الثاني: قال تعالى: {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام} [الأنفال ١١].

قال الطبري في تفسيره [11/64]: “حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: نزل النبي ﷺ، يعنى حين سار إلى بدر، والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة، فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تُصلُّون مجنبين! فأمطر الله عليهم مطرا شديدا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم، وأمد الله نبيه ﷺ بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مُجنِّبةً، وميكائيل في خمسمائة مُجنِّبةً”.

وذكر بعض المفسرين أن من وسوسة الشيطان لهم أن المشركين ينتظرونكم، حتى يستبد بكم العطش ثم يبطشون بكم، وهذا لا يبعد.

فهذا الذي كان يوم بدر، وكيف جاء الفرج من السماء بمطر غزير، وهذه آية وكرامة بعد أن كاد الشيطان يُدخل اليأس إلى قلوب المؤمنين.

وقد كان من دعاء النبي ﷺ يوم بدر: «اللهم إنك إن تُهلك هذه الفئة لا تُعبد»، فقد كان بقاء الإسلام على المحك، كما يقال في التعابير العصرية.

الموقف الثالث: قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا (٩) إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا (١٠) هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (١١) وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} [الأحزاب ٩-١٢].

وهذا يوم الأحزاب لما اجتمع المشركون ليبيدوا خضراء المسلمين، وغدرت اليهود، ولا مزيد على ما في القرآن، بلغت القلوب الحناجر، وكان النصر كيوم بدر من جندٍ من رب العالمين، وهو الريح، كما جند المطر يوم بدر.

الموقف الرابع: قال تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم} [التوبة ١١٧].

قال الطبري في تفسيره [12/49]: “﴿من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم﴾. يقول: من بعد ما كاد يميل قلوب بعضهم عن الحق، ويشك في دينه، ويرتاب بالذي ناله من المشقة والشدة في سفره وغزوه. ﴿ثم تاب عليهم﴾. يقول: ثم رزقهم، جل ثناؤه، الإنابة والرجوع إلى الثبات على دينه، وإبصار الحق، الذي كان قد كاد يلتبس عليهم”.

والمواقف كثيرة، يكفيك ما حصل يوم أحد وبئر معونة وقول المنافقين في أحد: (لو أطاعونا ما قتلوا) [آل عمران ١٦٨].

فكأن تلك الآية: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} [البقرة ٢١٤] كانت إشارةً وبشارة.

وخذها عبرة في كل زمان ومكان، غير أن الفرج قد يتأخر بذنوبنا، غير أن العسر لا يدوم.