من الأطروحات العجيبة والتي فشت هذه الأيام دعوى أن أحمد ابن حنبل هو أول من ربع بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.
مع أنه تواتر عن الشافعي ذكره علياً في الخلفاء، وغيره كثير، وعلي كان معه من الصحابة من معه.
ولم يفطن المتنازعون إلى ما يمكن استخراجه من موقف الفقهاء من هذه الفتنة، فإن عادتهم عدم الخوض التفصيلي، وإنما يذكرون في كتب الفقه ما يحتاجون إليه.
قال الشافعي في «الأم» في كتاب (الخلاف في قتال أهل البغي) [4/236]: “فقلت له إذا زعمت أن ما احتججنا به حجة فكيف رغبت عن الأمر الذي فيه الحجة أقلت بهذا خبرا أو قياسا؟ قال: بل قلت به خبرا. قلت: وما الخبر؟ قال إن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- قال يوم الجمل: لا يقتل مدبر ولا يذفف على جريح فكان ذلك عندنا على أنه ليس لأهل الجمل فئة يرجعون إليها.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: فقلت له: أفرويت عن علي أنه قال: لو كانت لهم فئة يرجعون إليها قتلنا مدبرهم وأسيرهم وجريحهم فتستدل باختلاف حكمه على اختلاف السيرة في الطائفتين عنده؟ قال: لا، ولكنه عندي على هذا المعنى. قلت: أفبدلالة؟ فأوجدناها. فقال: فكيف يجوز قتلهم مقبلين ولا يجوز مدبرين؟ قلت: بما قلنا من أن الله عز وجل إنما أذن بقتالهم إذا كانوا باغين. قال الله تبارك وتعالى: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات: 9] وإنما يقاتل من يقاتل، فأما من لا يقاتل فإنما يقال: اقتلوه لا فقاتلوه، ولو كان فيما احتججت به من هذا حجة كانت عليك، لأنك تقول لا تقتلون مدبرا ولا أسيرا ولا جريحا إذا انهزم عسكرهم ولم تكن لهم فئة، قال: قلته اتباعا لعلي بن أبي طالب، قلت: فقد خالفت علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في مثل ما اتبعته فيه، وقلت: أرأيت إن احتج عليك أحد بمثل حجتك وقال نقتلهم بكل حال وإن انهزم عسكرهم لأن عليا قد يكون ترك قتلهم على وجه المن لا على وجه التحريم، قال: ليس ذلك له وإن احتمل ذلك الحديث لأنه ليس في الحديث دلالة عليه، قلت: ولا لك لأنه ليس في حديث علي -رضي الله تعالى عنه- ولا يحتمله دلالة على قتل من كانت له فئة موليا وأسيرا أو جريح”.
إلى أن قال: “قلت: أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي فاختة أن عليا -رضي الله تعالى عنه- أتي بأسير يوم صفين فقال: لا تقتلني صبرا فقال علي: “لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين” فخلى سبيله، ثم قال: أفيك خير أيبايع؟
قال الشافعي رحمه الله تعالى:
والحرب يوم صفين قائمة ومعاوية يقاتل جادا في أيامه كلها منتصفا أو مستعليا، وعلي يقول لأسير من أصحاب معاوية: لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين، وأنت تأمر بقتل مثله؟”.
هذه مناظرة الشافعي مع رجل حنفي في قتال البغاة، هل يُذفَّف على جريحهم ويُتبع مدبرهم أم لا؟
اتفقوا على أنهم إن لم يكن لهم فئة يرجعون إليها فلا يجوز قتلهم ولا التذفيف عليهم.
وذهب الحنفية في أحد قوليهم أنه إذا كان له فئة فإنه يجوز قتله، وأما الشافعي فقال: لا، واستدل بصنيع علي مع رجل في صفين.
وقال إن معاوية كان قوياً فهو فئة، ومع ذلك علي لم ير قتل من كان معه لما استأسر.
الملاحظ أن الفريقين أهل الرأي وأهل الحديث (وممثلهم الشافعي) يحتجون بسيرة علي بن أبي طالب، وهذا تصحيح ضمني لخلافته، إذ لا يوجد فئة باغية ولا خوارج إن لم يوجد إمام عدل.
ولو رجعت إلى «الأصل» للشيباني لوجدته يستدل بعلي في هذا الباب.
وقال ابن المنذر في «الإشراف»: “5394- واختلفوا في قتل المُدْبر منهم، والأسير، أو الجريح.
فكان الشافعي يقول: لا يقتل منهم مُدْبرٌ أبداً، ولا أسير، ولا جريح بحال.
قال أبو بكر: ومن حجة من قال هذا القول قول علي رضي الله عنه يوم الجمل: لا يُذفّف على جريح، ولا يهتك ستر، ولا يفتح باب، ومن أغلق باباً، أو بابه، فهو آمن، ولا يتبع مدبر”.
وقال في آخر بحثه: “وقد روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه ودى قوماً من بيت مال المسلمين قتلوا مدبرين”.
واستدل المالكية بسيرته مع الخوارج.
جاء في «المدونة»: “قال ابن القاسم، وقال مالك في الحرورية وما أشبههم: إنهم يقتلون إذا لم يتوبوا إذا كان الإمام عدلا، وهذا يدلك على أنهم إن خرجوا على إمام عدل يريدون قتاله ويدعون إلى ما هم عليه دعوا إلى الجماعة والسنة، فإن أبوا قوتلوا”.
فلما جاؤوا إلى الاستدلال ذكروا صنيع علي بن أبي طالب حين أرسل ابن عباس، فهو مثال إمام العدل الذي يتكلم عنه مالك.
قال عبد الرزاق في تفسيره: “3212- عن معمر عن قتادة: أن الحواريين كلهم من قريش: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام”.
وهذا ثابت عن قتادة، ورواه الطبري في تفسيره من طريق محمد بن ثور، فتابع عبد الرزاق.
ومعمر يحفظ كلام قتادة لا أسانيده.
وهذه فائدة إلحاقية لم يجعل المقال لأجلها.