قال ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» [4/527] وهو يتكلم عن مسألة اتجاه الناس لله في الدعاء: “فظهر أن هؤلاء الجهمية منكرون لحقيقة كونه أحداً صمداً وأنهم جاحدون لحقيقة دعائه مسوغين للإشراك به فإن أهل السنة هم الموحدون له والمكملون لحقيقة الإقرار بأنه الأحد الصمد وهذا ظاهر ولله الحمد وبين هذا أن هؤلاء الجهمية ومن دخل فيهم من الملاحدة والفلاسفة والصابئين وغيرهم لا يعتقدون حقيقة الدعاء لله ولا يؤمنون أن الله على كل شيء قدير لاسيما من يقول منهم إنه موجب بالذات لا يمكنه أن يغير شيئاً ولا يحدثه فالدعاء عندهم إنما يؤثر تأثير النفوس البشرية وتصرفها في هيولي العالم وإذا كان كذلك فهم في الحقيقة لا يقصدون الله أن يفعل شيئاً ولا يحدث شيئاً ولا يطلبون منه شيئاً ولكن يقوون نفوسهم قوة يفعلون بها والعلم الضروري حاصل بالفرق بين ما يفعله الحيوان بنفسه وبين ما يطلبه من غيره”.
إلى أن قال: “ولهذا تجد غالب هؤلاء النفاة لأن يكون الله فوق العرش فيهم من الانحلال عن دعاء الله ومسألته وعبادته بقدر ذلك إلا من يكون منهم جاهلاً بحقيقة مذهبهم يوافقهم بلسانه على قول لا يفهم حقيقته وفطرته على الصحة والسلامة فإنه يكون فيه إيمان ونفاق فأما إذا استحوذ على قلبه تغيرت فطرته وهؤلاء يعرضون عن دعاء الله وعبادته مخلصين له الدين عند الاختيار ويجادلون في ذلك”.
ثم ذكر بعض الآيات في الموضوع وشرحهن.
وهذا الذي ذكره الشيخ واقعهم اليوم، فترى أكثر الناس تعلقاً بالأضرحة وفتنةً للعوام بها أولئك الذين يقولون: الله لا داخل الله العالم ولا خارجه.
ولهذا قال بعض الأذكياء في تلخيص حالهم: نفوا أن الله في السماء، فتعلقت قلوبهم بمن في باطن الأرض.
وذلك هو الخسران المبين والله.
وقال الشيخ كما في «بيان تلبيس الجهمية» [3/783]: “وهكذا كان السلف يقولون عن قول الجهمية إنهم لما قالوا إن الله ليس على العرش وأنه لا يكون في مكان دون مكان صاروا تارة يقولون إنه في كل مكان ويقول من يقول منهم إنه موجود لا نهاية لذاته فيجعلونه من الموجودات المخلوقة أو نفس وجودها وتارة يقولون ليس في مكان أصلاً ولا داخل العالم ولا خارجه فيجعلونه كالمعدومات فهم دائمًا مترددون بين الإشراك وبين التعطيل إما يجعلونه كالمخلوقات وإما أن يجعلوه كالمعدومات فالأول يكثر في عبادهم ومتصوفتهم والثاني يكثر في علمائهم ومتكلمتهم”.
وكلام الشيخ هذا لا يردُّ على القوم لوحدهم أو يُبيِّن ما بهم من الضلال، بل يردُّ على أقوام أنعم الله عليهم بالاعتقاد الصحيح، فأبوا إلا تصغير هذه الأبحاث، مع عظيم قدرها عند كل علماء الملة، ووقع في أذهانهم ألا عزة للأمة إلا بإقرار المعطلة على تعطيلهم والمشركين على شركهم، وإن أنكر عليهم ينكر بأخف الإنكار وألطفه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.