حين ظهرت تصريحات وزير الأوقاف السوري بأن المذاهب السنية ثلاثة؛ الأشاعرة والماتردية والأثرية، وأن من يعترض على رموز هذه المذاهب الثلاثة سيعاقب.
رأيت كثيرين أعجبهم خطابه، لا لأنهم يعرفون حقيقة الخلافيات بين المذاهب الثلاثة، ولكن لأن أي خطاب يدعو للاجتماع ونبذ الكراهية خصوصاً مع ظرف البلد الخانق، فإن الأذن العصرية تستحسنه، لأنها اعتادت السماع إلى هذا الكلام في سياق إيجابي.
وحين يمتزج البحث العلمي بالنظر المصلحي السياسي إذا أردت أن تقول أن هذا الكلام ليس صحيحاً وأن هذه المذاهب لا تلتقي، فإن الناس لن يروك باحثاً وصلت إلى نتيجة، بل (صاحب فتنة) و(مزعزع للأمن)، وعليه فأنت مخير بين الأخذ بنتيجة معينة أو السكوت.
لذا لا يمكن البحث خارج سياق هذا التشنج.
قديماً كان المرء إذا قال (المذاهب الثلاثة الأشعرية والماتردية والأثرية) يرد عليه الناس ويذكرون كلام المشايخ في تعقيبهم على السفاريني، ومنهم من وجَّه كلامه، ولكن الآن الأمر لما مزج بظرف سياسي صار مرهباً.
ولذا طريقة النقد والتفكيك ينبغي أن يزاد عليها.
فيقال: الشيعة أيضاً لهم حضور في البلد، وكذلك الطوائف الباطنية، واحتمالُ تحول الصراع العقائدي معهم إلى صراع مسلح قويٌّ، بل حتى أهل الكتاب.
فهل يحق لهم المطالبة بقانون يجرم تكفيرهم أو تضليلهم أو التعرض لـ(رموزهم)؟
فإن قال: نعم.
فيقال: فما خصوصية الأشاعرة والماتردية والأثرية؟ إذن ليَبقَ كل إنسان على عقيدته، ويعتقد باطناً ضلال القوم، ولكن لا يصرح به.
وهذا خيال لا يمكن تحقيقه.
وإن قال: لا.
فيقال: فإذا كان الكلام عن تكفيرهم أو تضليلهم لا يترتب عليه إشكالات أمنية، فكذلك الكلام في غيرهم.
جاء في «ذيل طبقات الحنابلة» [1/42] في قصة فيها حكاية مصالحة بين الأشعرية والحنابلة: “ثم قام ابن القشيري -وكان أقلهم احتراما للشريف- فقال الشريف: من هذا؟ فقيل: أبو نصر بن القشيري، فقال: لو جاز أن يُشكر أحد على بدعته لكان هذا الشاب، لأنه بادٍ هنا بما في نفسه، ولم ينافقنا كما فعل هذان. ثم التفت إلى الوزير فقال: أي صلح يكون بيننا؟ إنما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية، أو دنيا، أو تنازع في مُلك، فأما هؤلاء القوم: فإنهم يزعمون أنَّا كفار، ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كان كافرا، فأي صلح بيننا؟ وهذا الإمام يصدع المسلمين، وقد كان جدَّاه -القائم والقادر- أخرجا اعتقادهما للناس”.
والموجود في هذه القصة حقيقة تاريخية لا تدفع، لذا إذا ذهبت إلى أي كتاب فقه حنبلي ونظرت في باب الردة، ستراهم يذكرون عقائد الأشاعرة ويتحدثون عن الفرق بين داعية هذه العقائد والمقلد فيها، وحتى النزاع بين الأشاعرة والماتردية قويٌّ لمن حققه، وآثاره موجودة في كتب الفقه الحنفي.
قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النساء].
والخلافيات بين الناس في العقائد داخلة في هذه الآية ولا شك، ولا شك أن في الأمة من رد إلى الله ورسوله واهتدى، ومنهم من عاند ومن أهمل، والتسوية بين الحق والباطل ظلم للحق وأهله، ودولةُ الحق لا تقوم على الظلم.
بل إن هذا التقسيم فيه اتهام بالظلم والابتداع لعلماءِ جميع هذه الفرق الذين حصروا الحق في طائفتهم، وقد عاشوا في ظروف سياسية خانقة في كثير منهم، بل أنت الآن كنت في ثلاثة طوائف فجعلتها ستاً، لأن كل طائفة ستقسمها إلى معتدل ومتشدد.
والحلول الخيالية والمستحيلة تدمر ولا تبني، وقصة (الطعن في الرموز) مصطلح فضفاض يحتاج إلى تحرير، فإن الرمي بالضلالة أو نحوها في المباحث العقدية أمر معتاد، وهو من ضروريات أي مذهب، وإن لم يكن الأمر ضلالةً وهدًى فما فائدة العلم والأدلة إذن؟ وما فائدة تسميتها عقيدة؟ وما الفرق بينها وبين الفروع؟! فحتى في كرة القدم لا تصل الرومانسية إلى حد القبول بأكثر من فائز في مباراة لفريقين متضادين.