معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- ونقض مفهوم الدولة المستحيلة

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

جاء في جامع معمر: “20717- عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، قال: حدثني المسور بن مخرمة، أنه وفد على معاوية، قال: فلما دخلت عليه -حسبت أنه قال: سلمت عليه- ثم قال: «ما فعل طعنك على الأئمة يا مسور؟» قال: قلت: ارفضنا من هذا، أو أحسن فيما قدمنا له، قال: «لتكلمن بذات نفسك» قال: فلم أدع شيئا أعيبه به إلا أخبرته به، قال: «لا أبرأ من الذنوب فهل لك ذنوب تخاف أن تهلك إن لم يغفرها الله لك؟» قال: قلت: نعم، قال: «فما يجعلك أحق بأن ترجو المغفرة مني، فوالله لما ألي من الإصلاح بين الناس، وإقامة الحدود، والجهاد في سبيل الله، والأمور العظام التي تحصيها أكثر مما تلي، وإني لعلى دين يقبل الله فيه الحسنات، ويعفو فيه عن السيئات، والله مع ذلك ما كنت لأخير بين الله وغيره، إلا اخترت الله على ما سواه» قال: ففكرت حين قال لي ما قال، فوجدته قد خصمني، فكان إذا ذكره بعد ذلك دعا له بخير”.

وهذه رواية صحيحة، أحببت التعليق عليها مع انتشار حديث جماعة من العالمانيين عن الدولة الدينية المستحيلة.

هم يتصورون أن الدولة الدينية شيء مثالي لا يوجد فيه نقص ولا يحتمل النقص من المطبِّق، لذا يرون الدولة غير الدينية هي المثال الجيد الواقعي، وكثير ممن اغتر بأفكارهم تراه يرى الدولة المدنية مثالية، وهذا ما يجعلهم يتخيلون الغرب على غير واقعه، وربما نسجوا عنه الأساطير.

معاوية رضي الله عنه يبيِّن أنه بشر وعنده نقص في التطبيق، ولكن هذا النقص لا يجعلك تُغفل ما يفعله من تحقيق أهداف الدولة الكبرى قدر المستطاع، من إقامة الحدود والجهاد في سبيل الله وتحقيق التوحيد، وغيرها كثير.

الصلاة وهي الصلاة ورد في الخبر أن المرء قد ينفتل عنها وقد كُتب له نصفها أو ربعها أو سدسها.

فلا يصح أن يأتي شخص ويترك الصلاة بحجة أنه لا يمكن أن يصلي صلاة كاملة.

ووهم الكمال والمثالية هذا صد كثيراً من الناس عن طلب العلم والالتزام والتدين، وكثير منهم صار يرى الدين ثقلاً.

بينما الدين يعلمك كيف تتعامل مع نقصك وتستغفر ولا تقنط وتقوم بعد العثرة، وتتعامل مع زلل الآخرين بدرجات، فهناك الصغيرة وهناك الكبيرة وهناك البدعة وهناك الكفر.

وكذلك في أمر الدول، هناك خلل لا يجعلها دينية من الأساس، وهناك خلل يجعلها دولة مسلمة فيها ظلم، وهناك خلل يجعلها دولة مسلمة عادلة فيها من النقص ما فيها.

وكل إنسان يؤمن بنموذج سيحتمل بعض الخلل أو حتى الخلل العظيم، في مقابل ما يراه من مصالح أو لكي لا يأتي نموذج آخر.

وهذه هي لعبة العالمانيين، تراه عنده مشكلة في حكم الشرع لما فيه من تقييد للانحلال (هذا واقع كثير منهم)، وتراه يركز على الخلل في التاريخ الإسلامي، بينما تراه يتسامح مع النماذج التي يعظمها مهما صدر منها من خلل، بحجة أنها أفضل من غيرها وأنها تحمينا من الظلاميين.

والنماذج تختلف باعتبار الهدف منها، فالنموذج العالماني يركز على أمر الدنيا وحفظ المصالح الدنيوية الملموسة، فلا يوجد فيها شيء اسمه (مصلحة دينية)، وفي كثير منها لا يوجد حفظ للأعراض، إلا باعتباره عرفاً اجتماعياً.

وأما الشريعة: ففيها أمر اسمه (حفظ الدين) هو مقدم على مصالح أخرى، ومحاكمة (حكم الشريعة) باعتبار (العقل المدني) غلط ظاهر، هذا تقويم يشبه اتباع فقيه للسنة بحسب مذهب الشيعة!

هذه السفسطة هي أساس كثير من أطروحات المنافقين المعاصرين.