لا حياد في مسائل الاعتقاد

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

لا حياد في مسائل الاعتقاد

قال ابن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب (4/1706): “إسماعيل بن علي بن الحسين بن محمد بن الحسن بن زنجويه الرازي:
أبو سعد السمان، الحافظ الزاهد، رحل الى البلاد وجال، وأكثر من الشيوخ في الترحال، وكان في الحفظ والثقة على أجمل حال، وأفسد حسن هذه الأفعال بانتحاله مذهب الاعتزال، وكان شيوخه نحوا من أربعة آلاف”.

ثم سرد ترجمته وفي آخرها ذكر وصيته التي ثبت فيها اعتقاده المعتزلي، وقد رآها المصنف بخط الزمخشري، ثم قال ابن العديم في (4/ 1716): “هذا ما نقلته من خط الزمخشري وأنا أستغفر الله من إجراء قلمي بكل ما هو على خلاف السنة، وعلى موافقة البدع”.

هذا الاعتذار من ابن العديم عجيب، فإن كثيرًا من الناس خصوصًا من يشتغل بالأدب والتاريخ يغلب عليه حب المعرفة والإغراب، وربما تناسى العقيدة في هذا السياق، حتى أنك تجده يحفظ في مصنفاته أمورًا تخالف الاعتقاد السليم لنفاستها وكونها مغربة على أقرانه.

وفي زماننا ظهرت صنعة التحقيق وظهر توسُّعٌ عند بعض الناس في إخراج كتب المخالفين التي كُتُب أهل الحق أولى بالخدمة منها، وما كان منها فيه أهمية أو ضرورة وهذا نادر فلا بد أن يعلق عليها بما تبرأ به الذمة، ومن الناس من لا يصنع هذا لكي لا يقال عنه متعصب ويقال هو أكاديمي محايد.

وفي مشيخة سراج الدين عمر القزويني ص543: “386- وجميع مؤلفات أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري المعتزلي، كـ (الكشاف) في التفسير، و (المفصل)، و (الفايق)، وغير ذلك، مما يوافق أهل السنة والجماعة وأئمة السلف خاصةً دون ما يخالفهم من الاعتزال وغيره من البدع، فإني لا أجيز روايته عني، إلا بشرط الطعن فيه وبيان وفساده، ومخالفته لمذهب السلف الصالح، فإنه كان صاحب هوى داعيةً إلى مذهبه، قد منع كثيرٌ من الأئمة الرواية عن مثله”.

هذا الموقف الصلب يُحمد عليه، ودعنا الآن من البكاء على الأطلال وذكر مناقب الأوائل ولننظر لما نحن فيه.

لو قلت لشخص إنني سأطبع كتب المعتزلي فلان وسأحذف الاعتزاليات ربما سيعترض ويحدثك عن الأمانة العلمية.

ولكنك إن حدثته عن كتاب من كتب العقيدة السنية وحدثته عن حذف بعض الفصول فيها لداعي الفتنة فإنه غالبًا سيبارك هذا، بل هذا واقع رأيناه وقد تم هذا فعلًا.

ليس كل الناس كذلك ولكن هذا أمر موجود وحاضر.

وسر المسألة أن كل إنسان عنده (أصول) و(فروع)، عنده مسائل يوالي ويعادي عليها فتجد المخالف فيها عنده ينبغي أن يُطوى ذكره البتة ولا تُذكر له حسنة ويشتد في الخطاب معه، ومخالف نظهر معه الإنصاف ونرجو أن نجتمع معه ونحسِن ذكر ما له وما عليه ونفصِّل في مناقبه ونُجمِل في مثالبه بخلاف الصنف الأول فقد نصنع معه العكس أو لا نذكر مناقبه.

الشأن اليوم ليس في أن تعتقد اعتقادًا معينًا وإنما الشأن أن توالي وتعادي عليه كما فعل أهل هذا الاعتقاد الأوائل ، غالبًا يتركز الخوفُ من التراث العقدي اليومَ في هذه المنطقة، منطقة الحكم على المخالف أو التعامل معه بما لا يناسب رؤى الكثيرين.

يُحسِن الكثير اليوم ادعاء الإنصاف والحياد، والواقع أن كل ما في الموضوع أن أصوله غير أصولك، فينعى عليك التشديد في (أصولك) ويُظهِر هو التسامح فيها لأنها عنده فروع، ولكن في (أصوله) هو يصنع كل ما ينعاه عليك، وهذه لعبة مارسها العالمانيون وقلدهم مَن قلدهم من أبناء الحركة الإسلامية.

اليوم حين تجد عالمانيًّا يدين صور (التعصب الديني)، فإن ذلك لا يكون منه حبًّا في الإنصاف وإنما لأنه يرى الدين أقل من أن يُتعصب له، وإذا أدان الأحكام على المخالفين فليس من باب الورع فليس أورعَ من السلف ومفهوم الورع أصلًا لا حضور له عنده، وإنما لأنه يرى القضايا العقدية أقل من أن تكون محل حكم.

لهذا حين تحارب (الغلو) عليك أن تتأكد من سلامتك من النزعة التي ذكرتها أعلاه، وتتأكد أيضًا أنك تنطلق من بحث علمي لا مجرد هروب من تهمة أو صورة نمطية أو حرب شخصية على عروش وهمية أهلك السعي وراءها كثيرًا ممن كان ينبغي فيهم الصلاح.

وأيضًا فكرة (البحث الأكاديمي) التي أغرت الكثيرين بالحياد المزعوم هي لا تنطلق من تعظيم الحقيقة بل تنطلق من استحالة الوصول للحقيقة.

حسن أن تفهم الأقوال كلها وحسن أن ترتب حججك بشكل جيد ولا تظلم خصمك وتقول كلمة الحق وتكتب ما لك وما عليك، ولكن تراثنا ليس خلوًا من هذا حتى تستورده من الغرب، فربما وجدت المحدث يقول لك: (لا يصح في ذم الرافضة حديث) والرافضة أبغض الخلق إليه، ويقول لك (لا يصح في فضل الصحابي فلان حديث) (يعني الفضل الخاص) وهذا الصحابي أحب إليه من أهله وماله، وتجده يفتي بالفتيا ثم يقول لك: (لا يصح في التسليمة الواحدة حديث) مثلًا، وتجد هذه المسألة فيها إجماع بناءً على فتاوى الصحابة ولكن يحمله التجرد على التنبيه على أنه لا يصح حديث، وتجد أحدهم يوثق القدري ويضعف السني الإمام، وغيرها من مظاهر الإنصاف المذهلة.

الإنصاف لا يساوي البرود واختفاء الولاء والبراء، بل لا يقال منصف حتى تكون واضح الهوية يُعرف مَن خصمك ومَن صديقك، وكثير من الأحوال الأكاديمية هي مجرد تظاهر، فتجد المرء منهم ينقل المذاهب المختلفة ثم يرجح بنزعة لا علاقة لها بالبحث، تأمل أبحاث الأسماء والأحكام تجد الأمر جليًّا، وبعضهم إن كان خصمه ضعيف البينة أطنب في ذكر كلامه وحججه، وإن كان خصمه قوي الحجة استخدم ضده طريقة دعائية فيها تشويه وحيف، وذلك يذكرني بأثر عن الشافعي ذكره البيهقي في المناقب أن بعض الكوفيين قال له عامي أنا أعرف إذا كانت معك الحجة تكون هادئًا وإذا كانت الحجة لخصمك تقوم باللجاج لكي لا ينتبه الناس لحجتك (هذا معنى الأثر).