هل قال أبو عبيد القاسم بن سلام إن مرجئة الفقهاء من أهل السنة؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال أبو عبيد القاسم بن سلام في بداية كتابه في الإيمان: “اعلم -رحمك الله- أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر فرقتين:
فقالت إحداهما: الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب، وشهادة الألسنة وعمل الجوارح.
وقالت الفرقة الأخرى بل الإيمان بالقلوب والألسنة، فأما الأعمال فإنما هي تقوى وبر، وليست من الإيمان.
وإنا نظرنا في اختلاف الطائفتين، فوجدنا الكتاب والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا وينفيان ما قالت الأخرى”.

فجاء كثيرون في زماننا وزعموا أن أبا عبيد بما أنه وصف المرجئة بأنهم من أهل العلم والعناية بالدين، فهذا يعني أنه يعدهم من أهل السنة.

مع أنه زعم أن قول أهل السنة المقابل لهم يعضده الكتاب والسنة والإجماع.

ولكننا إذا أكملنا في كتابه سنراه نعتهم بالبدعة صراحة.

قال أبو عبيد في كتابه: “6- باب ذكر ما عابت به العلماء من جعل الإيمان قولا بلا عمل، وما نهوا عنه من مجالستهم.
قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو السيباني قال: قال حذيفة: “إني لأعرف أهل دينين، أهل ذينك الدينين في النار، قوم يقولون: الإيمان قول، وإن زنا وإن سرق، وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس؟ وإنما هما صلاتان! قال: فذكر صلاة المغرب أو العشاء، وصلاة الفجر””.

ثم سرد عدة أخبار، ثم قال: “حدثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن الزهري قال: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أعز على أهلها من هذا الإرجاء.
24- قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن مهدي بن ميمون، عن الوليد بن مسلم قال: دخل فلان -قد سماه إسماعيل ولكن تركت اسمه أنا- على جندب بن عبد الله البجلي، فسأله عن آية من القرآن؟ فقال: أحرِّج عليك إن كنت مسلما لما قمت، قال: أو قال: أن تجالسني، أو نحو هذا القول.
25- قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, عن أيوب قال: قال لي سعيد بن جبير غير سائله ولا ذاكرا له شيئا: “لا تجالس فلانا -وسماه أيضا-، فقال: إنه كان يرى هذا الرأي”.
والحديث في مجانبة الأهواء كثير، ولكنا إنما قصدنا في كتابنا لهؤلاء خاصة.
على مثل هذا القول كان سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس, ومن بعدهم من أرباب العلم وأهل السنة الذين كانوا مصابيح الأرض وأئمة العلم في دهرهم، من أهل العراق والحجاز والشام وغيرها، زارين على أهل البدع كلها، ويرون الإيمان قولا وعملا”.

فهو يراهم مبتدعة، ويورد الأخبار في هجرهم والتثريب عليهم.

وقال حرب في مسائله: “1126- حدثنا إبراهيم بن عبد الله الأنصاري، عن أبي عبيد، قال: «أما الصلاة خلف القدري والخارجي والمرجئ؛ فلا أحبها ولا أراها، فإن صلى رجل لم أُفسِد صلاته، ولم آمره بالإعادة»”.

والسؤال هنا: لماذا وصفهم بأنهم من أهل العلم والعناية إذا كان هذا رأيه فيهم؟

فيقال: إنما يستشكل هذا من دخلت عليه الحدية وشبهة المرجئة والخوارج، فالإنسان عندهم إما فاضل لا تُذكر له سيئة وإما سافل لا تُذكر له حسنة.

ولذلك تراهم في جدلياتهم إن جاءهم شخص بجرح مفسر في شخص، يذهبون ويقولون: أثنى عليه فلان. ويظنون أنه بذلك سقط كل جرح فيه.

وليس الأمر كذلك، فالبدع أنواع ودرجات، وأهلها كذلك في الأخذ بها أنواع ودرجات.

وقد يجتمع في الرجل موجب ذم وموجب إكرام، كسارق يسرق فيجب قطع يده ويفتقر فيجب علينا التصدق عليه، وكالوالدين الكافرين، لا طاعة لهما بالكفر ولهما الصحبة بالمعروف، وهكذا.

كذلك المبتدع الثقة في الحديث، يُقبل حديثه ولا يُكرم لبدعته، ويجوز أن يُذكر ما فيه من خير في سياق لا يغر الناس، وأما تغريرهم به فلا يجوز، فمن وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام، وهو على كل حال لا يسوَّى بينه وبين أهل السنة.

قال العقيلي في «الضعفاء»: “حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: سمعت أبي يقول: كان عبد العزيز بن أبي رواد رجلا صالحا وكان مرجئا، وليس هو في التثبت مثل غيره”.

فلاحظ أحمد ذكر صلاحه وحذَّر من بدعته وبيَّن حاله في الحديث، فجاء بالنصح على وجهه.

فالتناقض يكون بأن يقول شخص عنه: فقيه، ويقول آخر: جاهل بالفقه، فهنا تناقض، لا أن يقول شخص: هو فقيه، ويقول آخر: ولكنه ضعيف في الحديث أو متهم في اعتقاده، فهنا لا تناقض، فهذه الأمور تجتمع مع الفقه.