من أكثر الأمور التي تأخذ باللب عند قراءة السيرة النبوية ملاحظة شدة محبة أصحاب النبي ﷺ، مما يجعلك تقول -وإن تعلم خواص صفاته-: إنه لرجل جليل امتلأ رأفة ورحمة وخصالاً طيبة، حتى أحبوه كل هذه المحبة.
قال تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} [التوبة].
هذه محبةُ جليل، فالمرء إن وجد عذراً ألا يقاتل يفرح، لأن القتال أمره شديد وقد تذهب حياتك في لحظة، ومع ذلك من شدة محبتهم لله ورسوله يحزنون أشد الحزن ألا يكونوا مع النبي ﷺ ويذبون عنه بأنفسهم.
قال البخاري في صحيحه: “3904- حدثنا إسماعيل بن عبد الله، قال: حدثني مالك، عن أبي النضر، مولى عمر بن عبيد الله، عن عبيد يعني ابن حنين، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ جلس على المنبر فقال: «إن عبدا خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده» فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله ﷺ عن عبد خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله ﷺ هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به”.
هذا الخبر مما رواه البخاري ومسلم من أخبار «الموطأ».
كنت أمرُّ عليه قديماً ولا أنتبه إلى ما فيه، غير أن هذه المرة بدا لي فيه معنى؛
وهو أنه ﷺ لم يصرح لهم بالأمر، وإنما ألغز إليهم إلغازاً فهمه الصديق، وأحسب أن ذلك من عموم قوله تعالى: {بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة].
فمجابهتهم بذكر وفاته شديد على نفوسهم جداً، حتى إنه لمَّا أخبر ابنته فاطمة بذلك أتبعه بخبرٍ سرَّها، تخفيفاً على نفسها.
قال أحمد في مسنده: “22054- حدثنا الحكم بن نافع أبو اليمان، حدثنا صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد، عن عاصم بن حميد السكوني، أن معاذا لما بعثه النبي ﷺ خرج معه النبي ﷺ يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله ﷺ يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال: «يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري» فبكى معاذ بن جبل، جشعا لفراق رسول الله ﷺ، فقال النبي ﷺ: «لا تبك يا معاذ، للبكاء، أو إن البكاء، من الشيطان»”.
وهذا يدل على المعنى الذي ذكرته، فالنبي ﷺ ذكر لمعاذ موته على جهة التجويز فحسب، فأبكاه ذلك واشتد عليه.
ولذا كانت كل مصيبة بعده جلل (أي: هينة).
قال الدارمي في مسنده: “85- أخبرنا عبد الوهاب بن سعيد الدمشقي، حدثنا شعيب هو ابن إسحاق، حدثنا الأوزاعي، وحدثني يعيش بن الوليد، حدثني مكحول: أن النبي ﷺ قال: «إذا أصاب أحدكم مصيبة، فليذكر مصيبته بي، فإنها من أعظم المصائب»”.
وهذا خبر مرسل، ولم يُصِب من قوَّاه بمجموع الطرق، لوهاء الطرق الأخرى وكونها مراسيل صغار تابعين، إلا أن معنى الخبر سليم على ما في نفوس الصحابة، فأشد أمر عليهم وفاة النبي ﷺ وانقطاع الوحي.