لا تلق منجلك بل أعطهم مناجل

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

جاء في «صيد الخاطر» لابن الجوزي صـ٣٣٦: “١٠٥٤- ورأيت بعض القوم يقول: أنا قد ألقيت منجلي بين الحصادين ونمت! ثم كان يتفسح في أشياء لا تجوز! فتفكرت؛ فإذا العلم الذي هو معرفة الحقائق، والنظر في سير القدماء، والتأدب بآداب القوم، ومعرفة الحق، وما يجب له ليس عند القوم، إن ما عندهم صور ألفاظ، يعرفون بها ما يحل وما يحرم، وليس كذلك العلم النافع، إنما العلم فهم الأصول، ومعرفة المعبود وعظمته، وما يستحقه، والنظر في سير الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، والتأدب بآدابهم، وفهم ما نقل عنهم، هو العلم النافع الذي يدَع أعظم العلماء أحقر عند نفسه من أجهل الجهال”.

أقول: كتاب «صيد الخاطر» فيه مواد فلسفية وكلامية -على ما فيه من فوائد- تجعلنا ننصح المبتدئ بالابتعاد عنه، وكذا فعل الشيخ السعدي، كما في فتاويه.

وهذا موطن حسن بالجملة، ويحتاج شرحاً.

ابن الجوزي يتكلم عن فقهاء في زمانه لا يعملون ويغترون بما معهم من الفقه.

ويقول القائل منهم: “ألقيت منجلي بين الحصادين ونمت”، يقصد أنه لمَّا علم الناس العلم يأخذ الأجر، وهذا معنى صحيح، غير أن الفاسد أنه جزم لنفسه بالأجر، وأنه جعل ذلك باباً للكسل عن العمل، والتجري على المعاصي.

العلم من أسباب مغفرة الذنوب، فمعلم الناس الخير يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر.

ولا يخلو إنسان من ذنوب ونقص، حتى المشار إليهم بالعلم الواسع، غير أن المرء لا ينتفع بدعاء الناس له تمام النفع حتى ينفع نفسه أولاً.

دليل ذلك: الصحابي الذي سأل النبي ﷺ مرافقته في الجنة، فقال له: «فأعني على نفسك بكثرة السجود».

فكان لا بد من مبادرة منه وعمل، ولو فهم هذا المتعلقون بالموتى ممن سرى بهم الأمر إلى الشرك، وأصحاب الكبر والغرور، لتركوا ما هم فيه.

وتأمل حال عبد الله بن عمر في هذا الحديث: قال البخاري في صحيحه: “1639- حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، أن ابن عمر رضي الله عنهما دخل ابنه عبد الله بن عبد الله وظهره في الدار، فقال: إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال فيصدوك عن البيت فلو أقمت، فقال: «قد خرج رسول الله ﷺ فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فإن حيل بيني وبينه أفعل كما فعل رسول الله ﷺ {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}» ثم قال: «أشهدكم أني قد أوجبت مع عمرتي حجا»، قال: ثم قدم، فطاف لهما طوافا واحدا”.

ابن عمر كان كثير الحج، ويحج حتى في أوقات الفتن في مكة وما جاورها.

ولك أن تتساءل ما سر هذا الحرص مع كبر سنه وعظيم فضيلته، فهو حج مرات وهو صاحب فضائل عظيمة، فلم لا يريح نفسه؟

والجواب والله أعلم: أن هؤلاء الناس مع ما فعلوا من طاعات ما أمنوا مكر الله، كما أن المعاصي لا ينبغي أن تقنِّط من رحمة الله.

ثم هو حريص على أن يكرر الحج، حتى يراه الناس ويتعلموا منه مناسك الحج، فيأخذ الأجر ويكون سبباً في نجاة الناس وتكفير ذنوبهم.

فهو ما ألقى منجله بين الحصَّادين، بل أمسك بمنجله وأعطاهم مناجل، ثم علمهم كيف يحصدون (عملياً) بالمشاهدة، وذلك أرسخ للعلم من مجرد التحديث.

ولهذا أهل العلم والفضل من المنظور إليهم ينبغي أن يحتسبوا في إظهار السنن والطاعات، ليراهم الناس ويقتدوا بهم.