
هذه القصة منتشرة جداً، أسمعها منذ كنت طفلاً.
وخلاصتها أن هارون الرشيد قال لزوجته (أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة)، فتحير هل طلقت أم لا، وبحث عن فقيه يجد له مخرجاً، فجاء الليث بن سعد وأوجد له مخرجاً، حيث قال له: اقرأ سورة الرحمن، فقرأها حتى وصل إلى قوله تعالى: ﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾، فقال له: احلف أنك تخاف مقام ربك ويكون لك جنتان.
هذه القصة فشت في الناس جداً، وهي لا تصح وإلى النكارة أقرب.
فقد روى الخبر أبو نعيم في الحلية والسِّلفي في «الطيوريات»، وفي إسناده أبو العلي الحسن بن يوسف بن صالح، لم أقف على ترجمته، وأبو الحسن الخادم غير معروف (كذا قال محقق الطيوريات، وهو كما قال).
والصحيح أن هذه العبارة والشهادة للنفس بالجنة إرجاء، فالمؤمن لا يدري ما مصيره.
وقد كان مالك يفتي بأن من قال (زوجتي طالق إن لم أكن من أهل الجنة) بأنه يفرَّق بينه وبين زوجته، لأنه لا يدري ما مصيره.
قال ابن أبي زيد القيرواني في شرح وجه قول مالك هذا -في رسالته «الذب عن مذهب الإمام مالك» [2/684]: “ويقال له: أرأيت إن كانت له زوجة، وهو موقن أنها زوجته حلالا، ثم حدث عليه شك في أنها أمه أو أخته، من نسب أو رضاع، أيقيم عليها بعد ذلك؟
وهذا كله تشهد الأصول لصحته، لأن التحريم يحتاط فيه، ويكون غالبا على التحليل، ويقع التحريم بأقل الأمور، ولا يقع التحليل إلا بأكثرها.
ألا ترى لو طلق بعض امرأته حرمت عليه بذلك، وكذلك إن طلق بعض طلقة تامة، تعتد منها، وتحرم بذلك، ولو تزوج بعضها لم تحل له بذلك.
ولا تحل التي قال الله فيها: {حتى تنكح زوجا غيره}، إلا بالغاية من العقد والوطء، وقوله سبحانه {ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء} فالتحريم بذلك بالعقد، وهو أقل ما لزمه الاسم فالتحريم آكد وأغلب.
وهذه المسألة التي ذكر آكد في إيجاب ذلك، والله أعلم، لأن الحالف لم يدخل عليه الشك بغير قصد منه لذلك، بل هو قاصد إلى إدخال الشك على نفسه في حين يمينه، بقوله: إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق، وهذا قاصد إلى الدخول في الشك”.
يقصد ابن أبي زيد أن المرء لا يدري هل هو من أهل الجنة أم لا، فأشبه من شك بزوجته هل هي أخته من الرضاعة أم لا، فيفارقها احتياطاً (من قرائن، لا من وسواس).
وقال الخلال في «السنة»: “969- وأخبرنا سليمان الأشعث، قال: سمعت أحمد، قال يحيى: وكان سفيان ينكر أن يقول: أنا مؤمن. قال سليمان: وحدثنا أحمد، حدثنا وكيع قال: قال سفيان: الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث، نرجو أن يكونوا كذلك، ولا ندري ما حالنا عند الله”.
فقول سفيان: “ولا ندري ما حالنا عند الله” لا يتناسب مع من يشهد لنفسه أنه من أهل الجنة، ويعلق على ذلك طلاقه.
والمذكور في القصة تزكية للنفس لا تنبغي.
وقال ابن أبي شيبة في «الإيمان»: “٢٣- حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني لقيت ركبا فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن المؤمنون، قال: فقال: ألا قالوا نحن من أهل الجنة؟”.
وهذا إسناد صحيح، وفيه إنكار ابن مسعود على من قال قولاً يقتضي أنه من أهل الجنة دون استثناء، فما بالك بالجزم؟!