في رحاب شيخ مالك الفقيه العابد الذي رأى أنه بشِّر عند الاحتضار

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال ابن أبي الدنيا في «المحتضرين»: “314- حدثني العباس بن جعفر قال: حدثنا الحارث بن مسكين قال: أخبرنا ابن وهب قال: حدثني مالك بن أنس قال: كان عمر بن حسين من أهل الفضل والفقه والمشورة في الأمور والعبادة, وكانت القضاة تستشيره، قال مالك: ولقد أخبرني من حضره عند الموت، فسمعه يقول: {لمثل هذا فليعمل العاملون} فقلت لمالك: أتراه قال هذا لشيء عاينه؟ قال: نعم”.

وهذا إسناد صحيح، وقول ابن وهب لمالك: أتراه قال هذا لشيء عاينه؟

يعني أنه يسأل مالكاً هل تلا هذه الآية لأنه رأى ملائكة الرحمة فاستبشر؟ فقال مالك: نعم.

وقال أبو زرعة الدمشقي في تاريخه: “1037- حدثني الحارث بن مسكين, عن ابن وهب قال: حدثني مالك: أن عمر بن الحسين كان من أهل الفقه، والفضل، والمشورة في الأمور والعبادة، وكان أشد شيء ابتذالاً لنفسه، يخرج إِلى السوق، ومعه الثوب، يحمله يبيعه، ويكون قد اشتراه، وكانت القضاة تستشيره.
قال مالك: أَخبَرني من حضره عند الموت، فقال: {لِمِثلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُون} قال مالك: وكان عمر بن حسين يصلي العتمة في رمضان، ثم ينصرف إِلى منزله كل ليلة، فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين, صلى العتمة، وقام القيام مع الناس، وقام ليلته.
قال مالك: ولقد أَخبَرني من كان يصلي إِلى جنب عمر بن حسين في رمضان قال: وكنت أسمعه يستفتح القرآن في كل ليلة.
قال مالك: كان يختمه في كل ليل ويوم”.

وقال يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» [1/ 664]: “حدثني محمد بن أبي زكير أخبرنا ابن وهب حدثني مالك عن عمر ابن حسين أنه كان من أهل الفضل والعفة والمشورة في الأمور والعبادة.
قال: كان أشد ابتذالا لنفسه يخرج إلى السوق ومعه الثوب يحمله يبيعه أو يكون قد اشتراه. قال: وكانت القضاة تستشيره. قال مالك: ولقد أخبرني من حضره عند الموت فسمعه يقول: {لمثل هذا فليعمل العاملون}
قال: فقلت لمالك: أترى هذا القول لشيء عاينه؟ قال: نعم في رأيي.
قيل لمالك: الرجل يختم القرآن في ليلة؟ قال: ما أجود ذلك إن القرآن إمام لكل خير.
قال مالك: ولقد أخبرني من كان يصلي إلى جنب عمر بن حسين في رمضان قال: فكنت أسمعه يستفتح القرآن في كل ليلة. فقلت لمالك:
أفي ليلة؟ قال: بل نسمعه في الليل حتى إذا كان من الليلة الأخرى يستفتح في أول القرآن. قال مالك: يختمه في ليلة ويوم”.

وقال البخاري في «التاريخ الأوسط»: “حدثني الأويسي، ثنا سليمان بن يحيى بن سعيد قال: كتب الوليد بن يزيد حين استخلف يعني سنة خمس وعشرين ومائة إلى محمد بن هشام أو إلى يوسف بن عمر: أن ادع الفقهاء قبلك فسلهم قال يحيى: فأرسل إلى جميع فقهاء المدينة عبد الرحمن بن القاسم، وربيعة، وأبي الزناد، وأبي بكر بن محمد، وعمر بن حسين وذكر آخرين”.

أقول: هذا الرجل العجيب قل من يعرفه، وهو من شيوخ مالك في «الموطأ» ومن رجال مسلم، وروايته قليلة، وقد كان مولى، أي أنه عبد معتق، ولكنه بلغ في الفضل حتى صارت القضاة تستشيره، وكان فقيهاً يستفتيه الخلفاء، ومع ذلك هو عابد متواضع جداً حتى إنه ليخرج للسوق ويبيع ويشتري وقد كان أمثاله يتنزهون عن مثل هذا، لذا قال مالك إنه كان يبتذل نفسه.

ومن شدة عبادته يختم في رمضان في كل ليلة، ولذا عند احتضاره حين تلا قوله تعالى: {لمثل هذا فليعمل العاملون} رأى مالك أنه قرأ ذلك لما رأى خيراً.

وهذا والله منتهى الآمال أن تكون ممن قال الله فيهم: {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم} [يونس: ٦٤].

وقد فسرها جماعة من السلف ببشرى ملائكة الرحمة عند الموت، ولا ينافي هذا التفاسير الأخرى كما بينه الطبري.

وإنه لمقام جليل يزول فيه كل هم وترى كل جهد بذلته هيناً أمام الجائزة التي تبشَّر بها وتشعر ألا بأس بعد اليوم، وكم يخاف الناس من الموت وفي تلك اللحظة يجد المرء في الموت بداية الراحة والسعادة فيبكي عليك الباكون وأنت في غبطة وسرور لم تعرف مثلها قط.

اللهم ارزقنا مثل هذا بمنك وكرمك فإننا -مع محبتنا لهؤلاء الفضلاء- ما نبلغ مد أحدهم ولا نصيفه، ولا من هو دونهم بمراحل، وإنما نعول على العفو والفضل.