فرع فقهي يثير الشجن في مسألة أعياد الكفار وتهنئتهم

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

يوجد عند الفقهاء باب مشهور في البيوع اسمه “باب السَّلم”، وهو تعجيل الثمن وتأجيل المثمن إلى أجل معلوم، كأن أقول لك: خذ عشرة دنانير الآن وأعطني صاعين من تمر بعد ستة أشهر.

ومما تفرع على هذا الباب: نقاش الفقهاء في المدة المعلومة كيف تحدد؟

فاشترط بعضهم لها أن تكون بالأشهر القمرية، وتكلموا عن جعل الأمد عيداً من أعياد المشركين، كأن تقول له: أعطني صاعين من تمر في عيد الفصح النصراني.

جاء في «المغني» لابن قدامة: “(3225) الفصل الثالث، في كون الأجل معلوما بالأهلة، وهو أن يسلم إلى وقت يعلم بالهلال، نحو أول الشهر، أو أوسطه، أو آخره، أو يوم معلوم منه؛ لقول الله تعالى {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة: 189]. ولا خلاف في صحة التأجيل بذلك.
ولو أسلم إلى عيد الفطر، أو النحر، أو يوم عرفة، أو عاشوراء، أو نحوها، جاز؛ لأنه معلوم بالأهلة. وإن جعل الأجل مقدرا بغير الشهور الهلالية، فذلك قسمان:
أحدهما، ما يعرفه المسلمون، وهو بينهم مشهور ككانون وشباط، أو عيد لا يختلف كالنيروز والمهرجان عند من يعرفهما، فظاهر كلام الخرقي وابن أبي موسى، أنه لا يصح؛ لأنه أسلم إلى غير الشهور الهلالية. أشبه إذا أسلم إلى الشعانين وعيد الفطير، ولأن هذه لا يعرفها كثير من المسلمين، أشبه ما ذكرنا.
وقال القاضي: يصح. وهو قول الأوزاعي، والشافعي. قال الأوزاعي: إذا أسلم إلى فصح النصارى وصومهم، جاز؛ لأنه معلوم لا يختلف، أشبه أعياد المسلمين. وفارق ما يختلف؛ فإنه لا يعلمه المسلمون. القسم الثاني، ما لا يعرفه المسلمون، كعيد الشعانين وعيد الفطير ونحوهما، فهذا لا يجوز السلم إليه؛ لأن المسلمين لا يعرفونه، ولا يجوز تقليد أهل الذمة فيه؛ لأن قولهم غير مقبول، ولأنهم يقدمونه ويؤخرونه على حساب لهم لا يعرفه المسلمون. وإن أسلم إلى ما لا يختلف، مثل كانون الأول، ولا يعرفه المتعاقدان أو أحدهما، لم يصح؛ لأنه مجهول عنده”.

أقول: خلاصة كلام الفقهاء أن المعتمد من مذهب الحنابلة أنه لا يجوز أن يجعل موعد السَّلم غير الأشهر القمرية الهجرية، ومأخذ هذا واضح.

وأما من أجازوا غير ذلك فلم يختلفوا في أن ما لا يعرفه المسلمون في الغالب لا يمكن أن نجعله أجلاً.

وما كان منضبطاً معروفاً كالنيروز عند المجوس، فهذا اختلفوا فيه هل يقاس على الأشهر القمرية لأنه منضبط مثلها، أم يقاس على أشهر الكفار لأنها لا تُعرف في الغالب؟

وأما إذا جعلنا العلة عدم التشبه، فيُمنع منه ولا شك، غير أن المثير للشجن قول بعض الفقهاء إن فصح النصارى معروف، وهذا ليس دقيقاً فالأرثوذكس لهم فيه تاريخ غير الكاثوليك، وكل واحد منهم يتهم الآخر بأنه غالط في عيده وتاريخه، ولكن كثيراً من الفقهاء لأنهم لا يشغلون بالهم بأحوال القوم ما علموا ذلك.

فينطبق عليه قول ابن قدامة: “ولا يجوز تقليد أهل الذمة فيه؛ لأن قولهم غير مقبول، ولأنهم يقدمونه ويؤخرونه على حساب لهم لا يعرفه المسلمون”.

فتأمل أن في معاملة مادية اتقى الناس تعظيم شهور المشركين، حتى التي يعرفونها جيداً، ومع معرفتهم بها ما فكروا مجرد تفكير بالتهنئة، فضلاً عن الاحتفال بها.

وأما اليوم فمن شدة الانبطاح تراه يعرف موعد عيد الكاثوليك وموعد عيد الأرثوذكس ويحتفل برأس السنة أيضاً وبأعياد لا ترتبط بأديان كعيد الأم، ويعرفها ويراعيها أكثر من مراعاته للأشهر الحرم.

فاليوم نحن في شهر حرام وترى من يحتفل يحتفل، وهنيئاً لمن أنكر، فإنه يرجى مضاعفة الأجر فيها أيضاً.

وترى المسلم يضبط ميلاده ووفاته بعيداً عن الأشهر القمرية التي ترتبط بها العبادات.

وترى النصراني من طائفة ينكر على الآخر من طائفة أخرى احتفالَه، وترى المنبطح الذي يريد أن يهرب من تهمة التشدد يحتفل مع هذا ومع هذا.