قال تعالى: ﴿للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم﴾ [البقرة ٢٧٣].
قال عبد الرزاق في تفسيره: “٣٥٠- نا معمر، عن قتادة، في قوله تعالى: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} [البقرة: ٢٧٣] قال: «حصروا أنفسهم للغزو، فلا يستطيعون تجارة، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف»”.
وقال الطبري في تفسيره: “٦٢١٦- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:{للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله}، قال: كانت الأرض كلها كفراً، لا يستطيع أحد أن يخرُج يبتغي من فضل الله، إذا خرج خرج في كفرٍ. وقيل: كانت الأرض كلها حرباً على أهل هذا البلد، وكانوا لا يتوجهون جهة إلا لهم فيها عدو، فقال الله عز وجل: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} الآية. كانوا ههنا في سبيل الله”.
أقول: عامة تفاسير السلف مما ذكرت ومما لم أذكر تدور حول هذا المعنى، أن هؤلاء صاروا لا يستطيعون ضرباً في الأرض (السفر في التجارة) بسبب هجرتهم أو بسبب جهادهم.
فخلاصة حالهم أنهم ضاق عليهم الاكتساب بسبب أمر شرعي فعلوه، وكانوا أهل تعفف، فحث الله عز وجل أهل اليسار من أهل الإيمان أن يتفقدوهم وينفقوا عليهم.
واليوم يوجد لهؤلاء نظراء من طلاب العلم، ممن اشتغالهم بالعلم الشرعي ضيق عليهم أمر الاكتساب.
وقد قال الله عز وجل: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون﴾ [التوبة ١٢٢].
فهؤلاء يشابهون أولئك بدلالة القياس، خصوصاً وأن كثيراً منهم ضعف اكتسابه لاتقائه الحرام والشبهات، أو قيدته ظروف أخرى.
وقد رأيت في حياتي ما لا أحصيه إلا بكلفة من النابهين ممن أخرجه طلب الرزق وضغط الأهل أو الزوجة أو الأولاد إلى ترك الطلب أو ربما ترك الالتزام أو حتى إراقة ماء الوجه.
ومنهم من باع نفسه على قوم يستغلون ما عنده، ليمرر لهم أهواءهم أو يشد أودهم في خصوماتهم، ومثل هذا ليس معذوراً، بل هو أخس ممن يأكل بالطبل والزمر، غير أن إغلاق باب الشر مطلوب، كما في حديث: «تُصُدِّق الليلة على زانية» و«تُصُدِّق على سارق»، قيل في الخبر إن الصدقة قد تخرجهم مما هم فيه، وهؤلاء ليسوا معذورين باتفاق الناس.
ومثل هذا مما يحتسب به أشد الاحتساب، فمن جهز غازياً فقد غزا، والعلم النافع مما يجري أجره حتى بعد الوفاة.
والزكاة الواجبة لا تعطى لغير الفقير والمحتاج، ولكنك تتخير بين الفقراء، فكما أن الفقير اليتيم المرءُ يحتسب بإعطائه أكثر مما يحتسب في غيره، فكذلك طالب العلم المتعفف.