جواز هدم الكنائس في الأرض

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال ابن القيم في «زاد المعاد» [3/138]: “ولما كان في بعض الدول التي خفيت فيها السنة وأعلامها، أظهر طائفة منهم كتابا قد عتقوه وزوروه، وفيه أن النبي ﷺ أسقط عن يهود خيبر الجزية، وفيه شهادة علي بن أبي طالب، وسعد بن معاذ، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، فراج ذلك على من جهل سنة رسول الله ﷺ ومغازيه وسيره، وتوهموا، بل ظنوا صحته، فجروا على حكم هذا الكتاب المزور حتى ألقي إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وطلب منه أن يعين على تنفيذه، والعمل عليه، فبصق عليه، واستدل على كذبه بعشرة أوجه:
منها: أن فيه شهادة سعد بن معاذ، وسعد توفي قبل خيبر قطعا.
ومنها: أن في الكتاب أنه أسقط عنهم الجزية والجزية لم تكن نزلت بعد، ولا يعرفها الصحابة حينئذ، فإن نزولها كان عام تبوك بعد خيبر بثلاثة أعوام.
ومنها: أنه أسقط عنهم الكلف والسخر، وهذا محال، فلم يكن في زمانه كلف ولا سخر تؤخذ منهم ولا من غيرهم، وقد أعاذه الله، وأعاذ أصحابه من أخذ الكلف والسخر، وإنما هي من وضع الملوك الظلمة واستمر الأمر عليها.
ومنها: أن هذا الكتاب لم يذكره أحد من أهل العلم على اختلاف أصنافهم، فلم يذكره أحد من أهل المغازي والسير، ولا أحد من أهل الحديث والسنة، ولا أحد من أهل الفقه والإفتاء، ولا أحد من أهل التفسير ولا أظهروه في زمان السلف، لعلمهم أنهم إن زوروا مثل ذلك، عرفوا كذبه وبطلانه، فلما استخفوا بعض الدول في وقت فتنة وخفاء بعض السنة، زوروا ذلك، وعتقوه وأظهروه وساعدهم على ذلك طمع بعض الخائنين لله ولرسوله ولم يستمر لهم ذلك حتى كشف الله أمره وبين خلفاء الرسل بطلانه وكذبه”.

وهذه العهدة المذكورة هنا لا تختلف عن هذا الكتاب.

وجاء في «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي: “وحكي أن بعض اليهود أظهر كتابا وادعى أنه كتاب رسول الله ﷺ بإسقاط الجزية عن أهل خيبر وفيه شهادات الصحابة رضي الله عنهم وذكروا أن خط علي فيه فعرض على الخطيب فتأمله وقال هذا مزور لأن فيه شهادة معاوية وهو أسلم عام الفتح
وخيبر فتحت قبل ذلك ولم يكن مسلما في ذلك الوقت ولا حضر ما جرى وفيه شهادة سعد بن معاذ ومات في بني قريظة بسهم أصابه في أكحله يوم الخندق وذلك قبل فتح خيبر بسنتين”.

فهذا سلوك متكرر من أهل الكتاب، ولا فرق بين ادعاء إسقاط الجزية عن اليهود أو عن النصارى، فكلهم أهل ذمة.

وقد ورد في هذا العهد: “لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا حبيس من صومعته ولا سايح من سياحته ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم، ولا يدخل شيء من بناء كنايسهم في بناء مسجد، ولا في منازل المسلمين. فمن فعل شيء من ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله ولا يحمل على الرهبان والأساقفة ولا من يتعبد جزيةً ولا غرامة وأنا أحفظ ذمتهم أين ما كانوا من بر أو بحر في المشرق والمغرب والشمال والجنوب وهم في ذمتي وميثاقي وأماني من كل مكروه”.

وفي أخر المخطوطة مكتوب: “وكتب علي بن أبي طالب هذا العهد بخطه في مسجد النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وشهد بهذا العهد صحابة رسول الله ﷺ ومنهم: أبو بكر بن أبي قحافة، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، عبد الله بن مسعود، العباس بن عبد المطلب، والزبير بن العوام”.

وهذا كذب محقَّق، فإن إجماع الفقهاء على جواز هدم الكنائس في الأرض التي فتحت عنوة، والنبي ﷺ ما كان ليكتب عهداً لأهل الشام لأن الفتح إنما كان بعد وفاته.

وإسقاط الجزية عن الرهبان والأساقفة ما قال به فقيه قط بهذا الإطلاق، ولو كان فيه حديث عن النبي ﷺ لانتهى الخلاف.

قال ابن القيم في «أحكام أهل الذمة»: “فأما الرهبان فإن خالطوا الناس في مساكنهم ومعايشهم فعليهم الجزية باتفاق المسلمين، وهم أولى بها من عوامهم فإنهم رءوس الكفر وهم بمنزلة علمائهم وشمامستهم، وإن انقطعوا في الصوامع والديارات لم يخالطوا الناس في معايشهم ومساكنهم، فهل تجب عليهم الجزية؟ فيه قولان للفقهاء وهما روايتان عن الإمام أحمد أشهرهما: لا تجب عليه، وهو قول محمد والثانية تجب عليه وهو قول أبي حنيفة إن كان معتملا.
وقال أحمد: تؤخذ من الشماس والراهب وكل من أنبت، وهو ظاهر قول الشافعي، وعليه يدل ظاهر عموم القرآن والسنة، ومن لم ير وجوبها احتج بأنه ليس من أهل القتال”.

والأسقف مخالط للناس بلا نزاع.

وفي ذيل تاريخ بغداد [21/41]: “وأظهر بعض اليهود كتابا وادعى أنه كتاب رسول الله ﷺ بإسقاط الجزية عن أهل خيبر وفيه شهادات الصحابة
وذكروا أن خط علي بن أبي طالب فيه، وحمل الكتاب إلى رئيس الرؤساء، فعرضه على الخطيب، فتأمله ثم قال: هذا مزور! قيل له: ومن أين قلت ذلك؟ فقال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية أسلم عام الفتح سنة ثمان، وخيبر فتحت سنة سبع ولم يكن مسلما في ذلك الوقت ولا حضر ما جرى، وفيه شهادة سعد بن معاذ الأنصاري ومات يوم بني قريظة بسهم أصابه في أكحله يوم الخندق، وذلك قبل فتح خيبر بسنتين، فاستحسن ذلك منه ولم يجزهم على ما في الكتاب”.