قال البخاري في صحيحه: “باب شراء الإمام الحوائج بنفسه
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: اشترى النبي ﷺ جملا من عمر واشترى ابن عمر رضي الله عنهما بنفسه.
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: جاء مشرك بغنم، فاشترى النبي ﷺ منه شاة، واشترى من جابر بعيرا”.
كره جماعة من الفقهاء للقاضي ومثله الوالي أن يلي البيع والشراء، فعقد البخاري هذا الباب ليُبيِّن الجواز، وذكر أن النبي ﷺ وهو الإمام في وقته ﷺ اشترى عدة أمور وولي ذلك بنفسه ﷺ.
غير أنك ترى في منتصف استدلالات البخاري أمراً غريباً، وهو قوله: “واشترى ابن عمر رضي الله عنهما بنفسه”.
وابن عمر لم يكن قاضياً ولا والياً، غير أن البخاري أراد معنى دقيقاً يظهر من ذكر الخبر الذي اعتمده.
قال البخاري في صحيحه: “2099- حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، قال: قال عمرو: كان ها هنا رجل اسمه نواس وكانت عنده إبل هيم، فذهب ابن عمر رضي الله عنهما، فاشترى تلك الإبل من شريك له، فجاء إليه شريكه، فقال: بعنا تلك الإبل فقال: ممن بعتها؟ قال: من شيخ كذا وكذا، فقال: ويحك، ذاك والله ابن عمر، فجاءه فقال: إن شريكي باعك إبلاً هيما، ولم يعرفك قال: فاستقها، قال: فلما ذهب يستاقها، فقال: دعها، رضينا بقضاء رسول الله ﷺ: «لا عدوى»”.
فهذا رجل باع على ابن عمر إبلاً فيها عيب، فسأله شريكه عن صفة الرجل الذي باع عليه الإبل فلما وصفه عرف ذاك الرجل أنه ابن عمر، فذهب عليه واعتذر منه، ومع ذلك ابن عمر أتم الصفقة.
فهذا الرجل هاب ابن عمر كما يهاب الناس الأمير والقاضي لما كان يقع في نفوسهم من توقير العالم.
فكأن البخاري يقول: ابن عمر وإن لم يكن والياً، فهو بمنزلة الوالي، ولا يُكره بيع الوالي وشرائه لمعنى إلا وهو فيه، فإن قيل: خشية محاباة الناس له فهذا منطبق عليه، أو قيل: خشية نزول هيبته في قلوب الناس، فهذا منطبق على العالم.
والعالم يفتي والوالي يقضي وبينهما تقاطع، فهذا فقه دقيق من الإمام البخاري.
جاء في «الآداب» لابن شيخ السلامية ص200: “ولفظُ ابن عقيل: (وأهل الدين والورع والعلم والكرم والنسب، ولا يُستحب القيام لغير هؤلاء).
وقال أبو بكر عبد العزيز: (القيام الواجب إلى الإمام العادل، وإلى الوالدين، ولأهل الدين والورع، وإلى كرماء الناس؛ لحديث سعد.
والقيام إذا وقع لغير الدين أو لزينة الدنيا، فهذا هو المكروه والمنهي عنه.
والذي يُقام إليه ينبغي له ألا تسكن نفسُه إليه، ولا يطلبَه ولا يريدَه).
قال أبو العباس ابن تيمية: (أبو بكر والقاضي ومن تبعهما فرقوا بين القيام لأهل الدين ولغيرهم؛ فاستحبوه لطائفة، وكرهوه لآخرين، والتفريق في مثل هذا بالصفات فيه نظر.
وأما أحمد فمنع منه مطلقا لغير الوالدين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأمة، ولم يكونوا يقومون له.
فاستحباب ذلك للإمام العادل مطلقاً خطأ، وقصةُ ابن أبي ذئب مع المنصور تقتضي ذلك.
وما أراد أبو عبد الله -والله أعلم- إلا لغير القادم من سفر؛ فإنه قد نص على أن القادم من السفر إذا أتاه إخوانه فقام إليهم وعانقهم؛ فلا بأس به، وحديث سعد يخرَّج على هذا، بأن القادم يتلقى بالقيام يوم يلقى، لكن هذا قام فعانقهم، والمعانقة لا تكون إلا بالقيام.
وأما الحاضر في المصر الذي قد طالت غيبته أو الذي ليس من عادته المجيء إليه؛ فمحل نظر.
وأما الحاضر الذي يتكرر مجيئُه في الأيام؛ فاستحباب القيام له خطأ مخالف للسنة)”.
فتأمل قرنهم للعالم مع الإمام العادل.
وقصة ابن أبي ذئب التي أشار إليها ابن تيمية هي ما روى الخطيب في تاريخه: “أخبرنا الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا محمد بن القاسم بن خلاد. قال: لما حج المهدي دخل مسجد النبي ﷺ فلم يبق أحد إلا قام إلا ابن أبي ذئب، فقال له المسيب ابن زهير: قم هذا أمير المؤمنين! فقال ابن أبي ذئب: إنما يقوم الناس لرب العالمين. فقال المهدي: دعه فقد قامت كل شعرة في رأسي”.
وقال أبو موسى الأشعري: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط» رواه ابن أبي شيبة وفيه مجهول حال يحتمل هنا، وقوله: «غير الغالي فيه ولا الجافي عنه» يخرج منه أهل البدع كالخوارج والمرجئة، وأما أهل الكلام فهؤلاء ما حملوا القرآن في الاعتقاد حتى يغلو فيه أو يجفو عنه، بل قدموا العقل على النقل.