القشيري الصوفي: لا عبرة بكرامات من لم يكن على السنة

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

من أكثر الأمور التي ابتلي بها صوفية زماننا تعويلهم على الخوارق التي يزعمونها كرامات ويجعلونها مصححة للطريق، وما أكثر ما يعولون عليها وعلى الرؤى المنامية.

وعادة أهل الحديث أنهم يقولون: الاستقامة هي الكرامة.

وأن هذه الأمور إن صحت فلا تغني عن الدليل، فقد تكون أحوالاً شيطانية أو استدراجاً.

قال ابن الجوزي في «تلبيس إبليس»: “وقال إبراهيم: سمعت أبا جعفر محمد بن عبد الله القابني يقول: سمعت علي بن عيسى يقول: سمعت محمد بن إسحاق يقول: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: قال صاحبنا -يعني الليث بن سعد-: لو رأيت صاحب بدعة يمشي على الماء ما قبلته، فقال الشافعي إنه ما قصر لو رأيته يمشي على الهواء ما قبلته”.

وروى هذا كل من أبي نعيم في الحلية، والأنصاري في «ذم الكلام»، والبيهقي في «مناقب الشافعي»، وذكره الذهبي في السير برسم يشبه رسم «آداب الشافعي» لابن أبي حاتم.

ومن أشهر الرسائل التي يعول عليها الصوفية المعاصرون «الرسالة القشيرية»، لأن مصنفها معدود من كبار الصوفية الأشعرية، لذا فإن شهادته لها وزنها.

قال القشيري في آخر رسالته [2/580]: “ومن أصعب الآفات في هذه الطريقة صحبة الأحداث ومن ابتلاه الله تعالى بشيء من ذلك، فبإجماع الشيوخ ذلك عبد أهانة الله عز وجل وخذله، بل عن نفسه شغله ولو بألف ألف كرامة أهله”.

فهنا ينص على أن من ابتلي بانحراف ظاهر كصحبة الأحداث، فهذا مخذول، ولو ظهر للناس أن له كرامات، ومثله كل مبتدع ضال.

وقال أيضا في أول رسالته [1/58]: “سمعت محمد بن الحسين رحمه الله يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت موسى بن عيسى يقول: قال لي أبي: قال أبو يزيد: لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتقى في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهى وحفظ الحدود وأداء الشريعة”.

وقال أيضاً [2/417]: “فمنهم من قال: لا يجوز ذلك، وقال إن الولي يلاحظ نفسه بعين التصغير، وإن ظهر عليه شيء من الكرامات خاف أن يكون مكرا وهو يستشعر الخوف دائما أبدا، وإنما يخاف سقوطه عما هو فيه وأن تكون عاقبته بخلاف حاله، وهؤلاء يجعلون من شرط الولاية وفاء المآل”.

وقال أيضاً [2/526]: “واعلم أن أجل الكرامات التي تكون للأولياء: دوام التوفيق للطاعات والعصمة عن المعاصي والمخالفات، ومما يشهد من القرآن على إظهار الكرامات”.

ومن عجيب أمر المتكلمين: اشتراط جماعة منهم المعجزة لثبوت النبوة ثم لا يشترطون في الولي أمراً خارقاً للعادة، بل يرون الاستقامة أعظم الكرامة، ولو تأملوا هذا لوجدوا أن نبوة الأنبياء أظهر من ولاية الأولياء، نعم الآيات التي يسمونها معجزات من أدلتها، غير أن دلائل النبوة لا تنحصر بها.

قال ابن تيمية في «شرح الأصبهانية»: “وقد اعترض على هذا بعض من لم يدرك غور كلامه وسؤاله، كالمازري ونحوه، وقال: إنه بمثل هذا لا تعلم النبوة، وإنما تعلم بالمعجزة. وليس الأمر على ما قال، بل كل عاقل سليم الفطرة إذا سمع هذا السؤال والبحث علم أنه من أدل الأمور على عقل السائل وخبرته واستنباطه مما يتميز به هل هو صادق أو كاذب، وأنه بهذه الأمور تميز له ذلك، ومما ينبغي أن يعرف أن ما يحصل في القلب لمجموع أمور قد يستقل بعضها به، بل كل ما يحصل للإنسان من شبع وري وسكن وفرح وغم بأمور مجتمعة لا يحصل ببعضها لكن بعضها قد يحصل بعض العلم”.