القانط من رحمة الله والموسوس كالمستهزئ بآيات الله

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال الإمام أحمد في كتاب «الزهد» ص108: “أخبرنا غوث بن جابر قال: سمعت عبد الله ابن صفوان يذكر عن أبيه، عن وهب بن منبه قال: إني وجدت في التوراة أربعة أسطر متواليات؛ إحداهن: من قرأ كتاب الله عز وجل وظن أن لن يغفر له فهو من المستهزئين بآيات الله، ومن شكا مصيبته فإنما شكا ربه، والثالث: من حزن على ما في يدي غيره فقد سخط قضاء ربه، الرابع: من تضعضع لغني ذهب ثلثا دينه”.

أقول: هذا الأثر عن وهب بن منبه هو من الداخل في رخصة النبي ﷺ: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.

وأكثر ما لفت نظري فيه: “من قرأ كتاب الله عز وجل وظن أن لن يغفر له فهو من المستهزئين بآيات الله”، فتعجبت لما قرأته بدايةً كيف يكون من المستهزئين بآيات الله وهو إنما أساء الظن بنفسه؟

ثم تفطنت لحقيقة الأمر.

كتاب الله هنا هو القرآن أشير إليه بهذا النص من كتب المتقدمين.

ولو نظرت في القرآن فستجد أول ما تستفتح به قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم}، فذكرت لك الرحمة في البداية.

ثم بعد الحمدلة والتذكير بالنعمة {الرحمن الرحيم}.

ثم ترى مظاهر الرحمة والمغفرة معك على طول الخط.

والرحمة آثارها ظاهرة في خلقة بني آدم، حيث جعل الله عز وجل له أعضاءً تعينه على كل ما يحتاجه في أمر دنياه، من غير زيادة تثقل كاهله ولا نقصان يعيق انتفاعه.

وبسط الكلام على هذا يطول، معلوم في كلام العلماء والأطباء على حد سواء.

ثم إنه سبحانه سخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً.

قال الله تعالى: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} [الجاثية].

فحركة الشمس والقمر وتقلب الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر وأمر الرياح والمطر وبهيمة الأنعام وكل ما في الكون كله لنفع الإنسان.

قال الله تعالى: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (١٦٣) إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} [البقرة].

فتامل ذكره لهذه الأمر بعد ذكر اسمه الرحمن الرحيم، للدلالة على أن كل ما سبق من آثار رحمته.

فكما أن هذا التسخير يدل على أنك خلقت لغاية وما تركت هملاً، فهو أيضاً يشير إلى رحمة الله عز وجل.

وأما الرحمة في التشريعات فمظاهرها كثيرة.

فمن ذلك أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة لا يجزى إلا مثلها، ولو شاء لجعلهما سواء وكان هذا عدلاً.

ومن ذلك أن من هم بسيئة لا تكتب حتى يفعلها، ومن هم بحسنة فإنها تكتب وإن لم يفعلها.

ومن ذلك أن جعل المصائب مع ما فيها من الموعظة مكفرات للذنوب، ولو شاء لجعلها مواعظ فقط.

ومن ذلك أنه عرفنا بمواطن استجابة الدعاء، وجعل مواسم للخير تضاعف فيها الأعمال، ولو شاء لأخفاها.

ومن ذلك أنه بيَّن لنا الحقائق الدينية أعظم بيان في الكتاب والسنة وفنَّد شبهات أهل الباطل أعظم تفنيد.

ومن ذلك أنه سبحانه لم يكتف بالميثاق الذي أخذه على الخلق ولا بالفطرة، بل تعهد أنه لا يعذب إلا بعد أن يرسل رسولاً.

ومن رحمته أن أمر ملائكته بالاستغفار للمؤمنين، بل أمر نبيه بذلك، وجعل يوم القيامة الشفاعة للأنبياء والشهداء والصالحين في أهل الذنوب، ثم تكون رحمته المستقلة أعظم من هذا كله.

وغيرها كثير من مظاهر الرحمة، فما كرر عليك أن الله غفور رحيم، رؤوف، غفار للذنب، قابل للتوب سبحانه، وأنه يريد بعباده اليسر، إلا والرحمة ستصيبك ما طلبتها، فمهما عظم ذنبك فرحمة الله أعظم.

وليس معنى هذا أن تعمل بالمعاصي ثم تقول: سيغفر لي، بل القصد أن تطلب الرحمة بالطاعات، ولا تيأس من نفسك فتتوب ولو تعثرت مراراً، فهو يحب التوابين ويحب المتطهرين سبحانه.

والموسوس الذي أعنت نفسه خالف مقتضى هذا أيضاً، فهذا معنى الأثر والله أعلم، أنك تتعامل مع الله بعيداً عما وصف به نفسه في آياته، فكأنك تهزأ بها إذ لم تعتبرها.