
إرجاع الجيش الذي كان يحاصر القسطنطينية ينبغي أن يعد في مناقب عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
فهذا كصنيع خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في مؤتة الذي عده النبي ﷺ فتحاً.
فإن جيش المسلمين كانوا قد لحقتهم المجاعة في ذلك الحصار حتى كادوا يهلكون.
قال الطبري في تاريخه: “وقالت البطارقة لإليون: إن صرفت عنا مسلمة ملكناك فوثقوا له، فأتى مسلمة فقال: قد علم القوم أنك لا تصدقهم القتال، وأنك تطاولهم ما دام الطعام عندك، ولو أحرقت الطعام أعطوا بأيديهم، فأحرقه، فقوي العدو، وضاق المسلمون حتى كادوا يهلكون، فكانوا على ذلك حتى مات سليمان. قال: وكان سليمان بن عبد الملك لما نزل دابق اعطى الله عهدا ألا ينصرف حتى يدخل الجيش الذي وجهه إلى الروم القسطنطينية.
قال: وهلك ملك الروم، فأتاه إليون فأخبره، وضمن له أن يدفع إليه أرض الروم، فوجه معه مسلمة حتى نزل بها، وجمع كل طعام حولها وحصر أهلها وأتاهم إليون فملكوه، فكتب إلى مسلمة يخبره بالذي كان، ويسأله أن يدخل من الطعام ما يعيش به القوم، ويصدقونه بأن أمره وأمر مسلمة واحد، وأنهم في أمان من السباء والخروج من بلادهم، وأن يأذن لهم ليلة في حمل الطعام، وقد هيأ إليون السفن والرجال، فأذن له، فما بقي في تلك الحظائر إلا ما لا يذكر، حمل في ليلة، وأصبح إليون محاربا، وقد خدعه خديعة لو كان امرأة لعيب بها، فلقي الجند ما لم يلق جيش، حتى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق، وكل شيء غير التراب، وسليمان مقيم بدابق، ونزل الشتاء فلم يقدر يمدهم حتى هلك سليمان”.
وفي «البداية والنهاية» لابن كثير: “فكانوا عنده حتى استقدم الجميع عمر بن عبد العزيز خوفا عليهم من غائلة الروم وبلادهم، ومن ضيق العيش، وقد كان لهم قبل ذلك هنالك مدة طويلة. أثابهم الله تعالى”.
وهذا نظير المشتهر في التواريخ من أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ما أغزى المسلمين البحر شفقةً عليهم، والرواية وإن لم تكن قائمة الإسناد، إلا أن الواقع يعضدها، وعامة ما يذكره هذا وغيره من التواريخ إنما هي حكايات لا تجري على أصول المحدثين، والقصد أن الشفقة قد تحمل الإمام على الرفق بالجند، خصوصاً مع تعرضهم لأمور عظيمة وتحطم الروح المعنوية عندهم فيستبقيهم.
ومما جاء في «تاريخ الطبري»: “ووجه إليه خيلا وطعاما كثيرا، وحث الناس على معونتهم”.
ومما يذكر في سيرته إسلام ملوك السند وفتح بعض بلاد الهند.
جاء في «فتوح البلدان»: “وكانت خلافة عمر بن عبد العزيز بعده فكتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وقد كانت بلغتهم سيرته ومذهبه فأسلم حليشة والملوك وتسموا بأسماء العرب، وكان عمرو بن مسلم الباهلي عامل عمر على ذلك الثغر، فغزا بعض الهند فظفر”.
وبعض الهند هذه كشمير.
وأما قصة الأندلس فكان يريد إخراج أهلها لانقطاعهم عن المسلمين وتسلط العدو عليهم، فقال له عاملُه إن المسلمين قد كثروا وفشت الدعوة، فعدل عن ذلك.
قال محمود شيث خطاب في كتابه «قادة الفتح في الأندلس»: “وقالوا: وليت الله تعالى أبقاه حتى يفعل، فإن مصيرهم مع الكفار إلى بوار، إلا أن يستنقذهم الله برحمته” ويبدو أن هذه الأمنية: “وليت الله تعالى أبقاه حتى يفعل”، سُجِّلت بعد حدوث ما حدث في الأندلس، أي بعد أن خسر المسلمون الأندلس، وخسروا كثيراً من أرواحهم وأملاكهم وكثيراً مما هو أغلى من الأرواح والأملاك”.
ومعلوم أنه ليحافظ عليها جعلها متصلةً بالخلافة وليست تابعة لإفريقيا، ومعلوم أنه في زمنه عُمِّرت الأندلس.
جاء في «البيان المغرب»: “ثم ولى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- السمح بن مالك على الأندلس، وأمره أن يحمل الناس على طريق الحق، ولا يعدل بهم عن منهج الرفيق، وأن بخمس ما غلب عليه من أرضها وعقارها، ويكتب إليه بصفة الأندلس وأنهارها. وكان رأيه نقل المسلمين منها وإخراجهم عنها، لانقطاعهم عن المسلمين واتصالهم بأعداء الله الكفار؛ فقيل له: (إن الناس قد كثروا بها، وانتشروا في أقطارها؛ فأضرب عن ذلك) فقدم السمح الأندلس، وامتثل ما أمره به عمر -رضي الله عنه- من القيام بالحق، واتباع العدل والصدق؛ فانفرد السمح بولايتها؛ وعزلها عمر عن ولاية إفريقية، اعتناء بأهلها، وتهمما بشأنها”.
وفي وقت عمر -رضي الله عنه- أسلم عامة البربر، كما أسلم السند، من عدل ولاته وفضلهم.
قال خليفة بن خياط في تاريخه: “أفريقية عزل عنها محمد بن يزيد وولى عبد الله بن مهاجر الأنصاري مولى لهم، ثم ولى إسماعيل بن عبيد الله مولى بني مخزوم، فقدمها سنة مائة، فأسلم عامة البربر في ولايته، وكان حسن السيرة حتى مات عمر”.