الجفري والطرح الانسواني

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

مثل هذا الطرح لن تجد صوفياً أو أشعرياً قديماً يطرحه كما يفعل الجفري الآن.

النظر العقدي امتزج بثقافة ليبرالية طوباوية محلقة.

بعضهم كان يقول: كيف تبغضه وأنت تحب هدايته؟

فيقال: وكيف تقاتله وأنت تحبه؟ وكيف تضطره إلى أضيق الطريق ولا تبدأه بالسلام وأنت تحبه؟ (وهذا في سياق سلم).

إنما أبغضه لأجل كفره، وأحب زوال سبب البغض.

قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [المائدة ٥١].

وهذا يشمل المسالمين والمحاربين، فما بالك بالمجرمين أمثال نتنياهو؟ بل الآية في أهل السلم، لأن المحارب لا يفكر المرء أن يتخذه ولياً إلا لقرابة تعرض، ولا قرابة بين المسلمين واليهود والنصارى آنذاك.

وقال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء} [الممتحنة ٤].

تأمل قوله: {كفرنا بكم}، ولم يقل (كفرنا بما تعبدون)، فالبغضاء الحاصلة كانت لهم.

وأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، ومن زعم أنه يحب النقيضين، فهو متناقض ويزعم ما لا حقيقة له.

غير أننا لا يمكننا تبرئة العقيدة الجبرية الأشعرية بالكلية من هذا السلوك عند الجفري، فقد ذهب بعض الصوفية ممن وقعوا في الجبر في أنك ينبغي أن تحب كل شيء، لأن في كل شيء لله حكمة، والله يحب كل شيء بمعنى: خلقه وأراده.

قال الجويني في «الإرشاد»: “مما اختلف فيه أهل الحق إطلاق المحبة والرضاء، فقال بعض أصحابنا: لا يطلق القول بأن الله تعالى يحب المعاصي ويرضاها لقوله تعالى: ﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾ ومن حقق من أئمتنا لم يلتفت إلى تهويل المعتزلة بل قال: الله تعالى يريد الكفر ويحبه ويرضاه! والإرادة والمحبة والرضا بمعنى واحد”.

وأقره النووي في بعض مصنفاته.

وسبب جرأتهم على هذا أنهم لا يفرقون بين الإرادة الكونية، وهي تقتضي وقوع الأشياء وأن لله حكمة فيها، وبين الإرادة الشرعية وهي التي تستلزم المحبة.

والمحبة عندهم ليست صفة قائمة بالذات على المعنى المعروف عند الناس، وإنما خلق يخلقه الله، أو تعود على الإرادة، وهي عندهم قديمة وليست على معنى الإرادة المعروف عند الناس.

لهذا مع فساد عقيدتهم ما تجرأوا أن يقولوا كما قال الجفري، غير أنهم مهدوا لهذا الضلال العريض.

وقال ابن تيمية في «شرح الأصبهانية» ص46: “وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام وبإجماع سلف الأمة قبل حدوث أقوال النفاة من الجهمية ونحوهم أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ولا يحب الكفر والفسوق والعصيان، وأنه يرضى هذا ولا يرضى هذا والجميع بمشيئته وقدرته، والذين لم يفرقوا لهم تأويلات؛ تارة يقولون لا يرضاه لعباده المؤمنين فهم يقولون لا يحب الإيمان والعمل الصالح ممن لم يفعله كما لم يرده ممن لم يفعله ويقولون: إنه يحب الكفر والفسوق ممن فعله كما أراده ممن فعله.
وفساد هذا القول مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، مع دلالة الكتاب والسنة وإجماع السلف على فساده”.

وقال شيخ الإسلام في «النبوات» ص287: “وحقيقة هذا القول أن الله يحب الكفر، والفسوق، والعصيان، ويرضاه. وهذا هو المشهور من قول الأشعري وأصحابه،وقد ذكر أبو المعالي أنه أول من قال ذلك، وكذلك ذكر ابن عقيل أن أول من قال إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان هو الأشعري وأصحابه،وهم قد يقولون لا يحبه دينا، ولا يرضاه دينا،كما يقولون:لا يريده دينا؛ أي لا يريد أن يكون فاعله مأجورا، وأما هو نفسه فهو محبوب له كسائر المخلوقات؛ فإنها عندهم محبوبة له؛ إذ كان ليس عندهم إلا إرادة واحدة شاملة لكل مخلوق؛ فكل مخلوق، فهو عندهم محبوب مرضي.

وجماهير المسلمين يعرفون أن هذا القول معلوم الفساد بالضرورة من دين أهل الملل،وأن المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن الله لا يحب الشرك، ولا تكذيب الرسل، ولا يرضى ذلك، بل هو يبغض ذلك ويمقته ويكرهه؛ كما ذكر الله في سورة بني إسرائيل ما ذكره من المحرمات، ثم قال: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها}. وبسط هذه الأمور له مواضع أخر”.