كلامه هذا ذكرني بقول الشوكاني في «نيل الأوطار» -وهو أحد عمد القائلين بعدم وجود إجماع على حرمة المعازف وبحثه عليه مآخذ كثيرة- : “وإذا تقرر جميع ما حررناه من حجج الفريقين، فلا يخفى على الناظر أن محل النزاع إذا خرج عن دائرة الحرام لم يخرج عن دائرة الاشتباه والمؤمنون وقافون عند الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح: «ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» ولا سيما إذا كان مشتملا على ذكر القدود والخدود والجمال والدلال والهجر والوصال ومعاقرة العقار وخلع العذار والوقار، فإن سامع ما كان كذلك لا يخلو عن بلية وإن كان من التصلب في ذات الله على حد يقصر عنه الوصف، وكم لهذه الوسيلة الشيطانية من قتيل دمه مطلول، وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول، نسأل الله السداد والثبات”.
وإنني لأتعجب ممن يرى من المنكرات الشيء العظيم فلا ينتصب في إنكارها والتدين لله بهذا عسى أن يثيبه ربه ويغفر له، ثم يشغل زمانه بالبحث عن أي شبهة لإباحة الأغاني وتكون باباً للشر والله المستعان.
وقال الزمخشري في «الكشاف»: “ولقد صنف شيخنا أبو على الجبائي قدس الله روحه غير كتاب في تحليل النبيذ، فلما شيخ وأخذت منه السن العالية قيل له: لو شربت منه ما تتقوى به، فأبى. فقيل له: فقد صنفت في تحليله، فقال: تناولته الدعارة فسمج في المروءة”.
يعني تناوله الفساق فقبح أن نتشبه بهم!
وقال أبو تراب الظاهري في لقاء له مع جريدة المدينة -وكان من أعمدة من أباح المعازف في زماننا- : “ومع الأمر بالتوقف بالغ في النصيحة، ورد عليَّ الشيخ التويجري رحمه الله بكتيِّبه (القول الجميل في الرد على ابن عقيل) كما سبق له تأليف كتابه (القول الصواب في الردِّ على أبي تراب) -كما رد على أبي تراب ردّْاً خطابياً غير علمي الأستاذ أحمد باشميل رحمه الله بكتاب عنوانه:(إسكات الرعاع في إباحة السماع)-، ورددتُ على الشيخ التويجري رحمه الله، ونشرتُ ما كتبته في الدعوة بكتابي (مسائل الأصحاب) بلا إضافة، ومنذ ثلاث سنوات طهَّرتُ بيتي من أشرطة الغناء والسينما والأفلام، بل أخرجت التلفاز من مكتبتي، وكنتُ سابقاً لا أتابع فيه إلا اللهو، ولكنني لا أستطيع البعد عن سماع الأخبار؛ فكنت أستمع إلى إذاعة القرآن في راديو صغير أضعه على ماصتي مدة جلوسي على مكتبي بصوت خافت حتى ألحظ ما يهمني فأرفع الراديو وأستمعه، ولم أستمع للغناء ألبتة، وأما (السماع وهو غير الاستماع) إذا عجزتُ عن مقاومته كأن أكون في ردهة فندق خارج المملكة فإنني أُقاومه بالاستغفار والتسبيح والتهليل بلساني أو بقلبي، ولست اليوم أرى في الغناء لذة، وأما الغناء الشعبي بغير آلة فأسمعه في مناسبات، وأغنيه إذا أردتُ نظم شعر فصيح أو عامي؛ لإقامة الوزن؛ فاللحن اللعبوني مثالاً لا حصراً في قول ابن لعبون: مومنات ما شباهن الدبق ما فضى حلاتهن كود البريق يقيم لك وزن الرمل؛ لأنك تُغنِّي بهذا اللحن شعراً عربياً مثل قول بشار: إن في بردي جسماً ناحلاً لو توكأت عليه لانهدم النطق الفصيح إلا أنك في الشعر الفصيح تحرص على النطق الفصيح الصحيح، وبهذا ظهر لي سرُّ الزحافات فقوله “توكأت” هو الصحيح لغةً، ثم يكون لك بالغناء ضرورة غنائية بإشباع التاء هكذا “توكأتي” وكل ما ذكرته لكم ليس بحولي ولا قوتي ولكنه إلجاء من ربي جل جلاله بهداية التوفيق والإعانة؛ فله الحمد والمنة، وعوضني ربي بهيام لا حدَّ له بسماع أصوات المقرئين المجوِّدين المجيدين، وآثرهم عندي محمد رفعت رحمه الله وجزاه الله عني خيراً مع علمي بتجاوزه في المدِّ؛ فلا أقلده إلا بمدٍّ بين حركتي أصبع أو أربع أو ست، وكان استماعي أكثر من تلاوتي؛ فيمضي يوم لم أقرأ أكثر من ربع حزب أو نصف حزب، ولكنني مع النشاط ومصابرتي للنفس الملولة الصادَّة عن الجد أقرأ هذا الكم قبل مباشرتي العمل على مكتبي، وربما كررت هذا الكم خمس مرات قبيل الصلاة أو بعدها”.
وأما الانتقال من الأناشيد إلى الغناء، فتلك حبالة للشيطان للكلام عنها مقام آخر.
وأعتذر عن الآهات والمؤثرات، ومقطع كهذا ينبغي أن يخلو من هذه الأمور.