قال تعالى: {الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب} [الشورى].
الميزان له كفتان لا ينبغي أن ترجح إحداهما على الأخرى، فإن رجحت هذه صار الأمر غلواً، وإن رجحت تلك صار الأمر جفاءً.
من الأمور التي حفظناها منذ الصغر نصوص الحث على بر الوالدين، وصار هذا المفهوم من الثوابت التي لا تحتمل خدشاً، خصوصاً بر الأم.
ولم يكن يخطر على بالي أن هذا المعنى الشرعي الجليل سيدخله الغلو ويساء استخدامه.
رأيت مكالمة هاتفية لفتاة تخاطب شيخاً بأنها تريد الانتقاب ووالدتها ترفض، دخلت الوالدة على المكالمة وخاطبت الشيخ قائلة: إن النقاب سنة وطاعتها فرض وإنه يجب طاعتها، غضب الشيخ من كلامها وقرَّعها.
ورأيت بعض الناس يعلق على هذا الضرب من الآباء بأنهم يرون أبناءهم مبتلين بكثير من المعاصي ولا ينهونهم، ويظهر الحديث بالبر إذا رأوه يتدين، لينهوه عن بعض الطاعات، وأنهم لا يقدرون على فعل هذا مع ابنهم العاق، والذي يختار كثير منهم طريق الاسترضاء معه، إذ لا يمكنهم السيطرة عليه باستخدام النصوص التي يعسفونها.
في الواقع لم أستغرب من كلام هذه المرأة، فما أكثر ما تأتي الأسئلة من ضرب:
أمي أمرتني بحلق لحيتي، وإلا فستقاطعني تماماً.
أمي غضبت علي واتهمتني بالعقوق، لأنني رفضت أن أعطيها هدية بمناسبة عيد الأم.
أبي قال إنه سيغضب علي إن لم أدخل الكلية الفلانية.
أمي حلفت أنها لن تكلمني إن لم أطلق زوجتي.
أبواي يصران على الزفاف المختلط وإلا سيقاطعانني.
وأسئلة كثيرة جداً من هذا الضرب، حيث يستخدم أحد الوالدين أو كلاهما الابتزاز العاطفي المقرون بسند شرعي متوهم، لفرض ما يريد على ابنه.
يبدو من خلال هذه الأسئلة ونظائرها أن كثيراً من الآباء والأمهات ظنوا أن الأمر بطاعة الوالدين يعني أن يصير الوالدان متحكمان بكل دقيق وجليل في حياة الشاب والشابة، بل تصير لهما سلطة أعلى من سلطة النص ويصير قولهما مرجحاً فقهياً أيضاً!
قال أبو داود في مسائله عن أحمد: “1660- حدثنا عباس العنبري، عن بشر بن الحارث، عن عبد الرحمن بن مهدي، قال: سمعت سفيان الثوري رحمه الله تعالى يقول: ليس للوالدين طاعة في الشبهات”.
القصد أن الأمر الذي تشك فيه هل هو حلال أم حرام وتريد أن تتورع عنه، إن أمرك أبواك بعدم التورع، فلا طاعة لهما في ذلك، والأثر صحيح عن سفيان.
ولذلك فإن أمر النقاب لو فرضنا الخلاف فيه (وليس خلافاً قائماً، خصوصاً في الشابة) ليس هذا محل طاعة.
وقال الحسين المروزي في زوائد «البر والصلة»: “64- حدثنا المعتمر بن سليمان، عن هشام الدستوائي، عن الحسن في الرجل تقول له: أفطر -يعني أمه- قال: ليفطر، وليس عليه قضاء، وله أجر الصوم والبر، وإذا قالت: لا يخرج إلى الصلاة، فليس لها في هذا طاعة هذه فريضة”.
أقول: يقصد أنه إذا طلبت منه قطع صيام النافلة فلا بأس، ولكن إن نهته عن صلاة الجماعة فلا، لأنها من قبيل الواجب.
وفي رواية أبي طالب عن أحمد ابن حنبل في الرجل ينهاه أبوه عن الصلاة في جماعة، قال: ليس طاعته في الفرض.
وقال ابن المبارك في «البر والصلة»: “59- أخبرنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، قال: قيل له: رجل أمرته أمه أن يطلق امرأته؟ قال الحسن: ليس الطلاق من برها في شيء”.
وبهذا أفتى أحمد.
وفي «الآداب الشرعية» لابن مفلح: “قال الشيخ تقي الدين (يعني ابن تيمية) -رحمه الله- إنه ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وإنه إذا امتنع لا يكون عاقا، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر منه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك وأولى، فإن أكل المكروه مرارة ساعة وعشرة المكروه من الزوجين على طول تؤذي صاحبه ولا يمكنه فراقه. انتهى كلامه”.
وهذا مثل أمر الدراسة وغيره.
وفي الحقيقة الأمر أبعد من بحث فقهي، فإن كثيراً من الآباء والأمهات اختياراتهم مبنية على نظرة مغلوطة للدين ومنظومة الأهداف، فكثير منهم لا يوجد في واقعه: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب}، لذا قد يظنون أن الطاعة مثل النقاب قد تحرم من شيء من الدنيا مثل الزواج، وأن كل طاعة ينبني عليها ذهاب شيء من الدنيا ولو ظناً ووسوسة، فإن هذه الطاعة تسقط.
وهذا يفسر لك احتفاء بعض الناس ببعض الاختيارات الفقهية، حتى إن هناك مراجعات فكرية كانت خاضعة لهذا الضغط.
باختصار: بعضهم لو كان في زمن النبي ﷺ لرأى المهاجرين في سنينهم الأولى مغبونين، ولما أحب أن يكون معهم، هذا مقتضى طريقتهم بالتفكير وليس صريح مقالهم.
وهذه الحالة أنشأت حالة مقابلة من التمرد والعقوق، خصوصاً وأن كثيراً من الناس عنده إما طاعة مطلقة أو لا طاعة، مع أن رب العالمين يقول: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} [لقمان].
العلاقة بين الوالدين والأبناء من أكثر الأمور الجميلة والتي يفتقدها كثير من الناس حول العالم، خصوصاً مع طغيان الفردانية، فلا نحيلها عذاباً على من نحب.