رأيت كلاماً لامرأة عامة علماء بلدها يقولون بوجوب النقاب، وهذا مذهبهم الفقهي (إن فرضنا وجود خلاف معتبر في المسألة)، تقول في ثنايا كلامها إن النقاب صار عبئاً، وكثير من النساء كشفن شعورهن لأنهن رأين أنفسهن عاصيات عاصيات بكشف الوجه، فقمن بكشف الشعر من باب (خربانة خربانة).
قد يبدو هذا الكلام أسخف من أن يعلق عليه، ولكن مما تعلمته في السنوات الماضية أن مثل هذا قد يؤثر في تفكير كثيرين، لا أعني المراهقين والمراهقات، بل حتى بعض المثقفين والمؤثرين، وسيأتي بيان ذلك.
كلامها يشبه كلام من يقول لك: تحريم المسلسلات والأفلام أدى إلى أن يشاهد الناس المواد الإباحية، لأنهم يرون أنفسهم عاصين على كل حال.
وتحريم التدخين أدى إلى أن يُقبل الناس على الحشيش أو الخمر، لأنهم يرون أنفسهم عصاة على كل حال.
وبإمكاني أن أضرب أمثلة كثيرة لأناس عقليتهم حدية، يفضلون ارتكاب أشد الذنوب بحجة أننا إما لا نعصي أو نقنط من رحمة الله، فنرتكب أعلى درجات الذنب، أما أن نُذنب ونعترف ونستغفر ونتخفف قدر المستطاع فلا.
الأمثلة عامتها ستكون أهون وأقرب من مثال توجد فيه (مظلومية المرأة).
فلن تجد رجلاً يقول: (إيجابكم صلاة الجماعة علي صار عبئاً، ولذلك تركت الصلاة بالكلية)، إذا سمعت من يقول هذا لن تشك أنه مصاب بوسواس قهري ووهم كمال، وأنه بحاجة إلى علاج نفسي وفقه في الدين.
اكتشفت في السنوات الأخيرة أن كثيراً من تتبع الرخص جاء من نفسية كنفسية هذه المرأة، نريد أن نشعر أننا متدينون وفضلاء ونفعل ما نريد ولا ينكر علينا أحد.
هنا لن يحتكموا إلى الدليل الشرعي، بل إلى هذا الهوى.
إذا رأوا شخصاً يُبيح لهم ما يريدون إباحته فسيجعلونه العالم المحقق والفقيه البارع، وإن لم يفهموا كيف يقام البحث الفقهي والعلمي، وإنما سعداء بنتيجته وأنه ألبسها لبوس البحث العلمي، وسيمكنهم أخيراً من محاججة (المتشددين).
وهو بدوره سيفرح بهذا الاحتفاء، وسيُقنع نفسه بأن ذلك بسبب قوته الإقناعية وبراعته، لا أهواء مسبقة عند من يطبل له، وأنه أنقذ الدين من كونه منفراً، وما يدري أنه أيقظ وحشاً في نفوس القوم لن يقف عنده، وسيبحثون عن المزيد.
وهؤلاء مع تأثرهم بالقيم الليبرالية بشكل واضح، إلا أنهم يريدون للفقيه أن يترك ما يقتنع به ويفتيهم ويكون مرناً بحسب العصر (والمرونة موافقة أهوائهم).
فهو حتى لو اعتقد وجوب النقاب مثلاً، فعليه أن يقول: (ولكن هناك من لم يقل بالوجوب، ومن أخذ بقوله فلا تثريب عليه)، فيصير مفتياً بعدم الوجوب وإن اعتقد الوجوب.
ومن أكثر الأمور سخرية حماس عدد من المتأثرين بهذا الفكر للفقه المذهبي، لأنه الذي سيخلِّصهم من تشدد السلفيين، ولكن لا يوجد أحد منهم يلتزم بمذهب بعينه، لأنه لا يوجد مذهب يشبع جوعهم الترخصي.
فعامتهم يتعدى بهم الأمر إلى التلفيق وتتبع الرخص المذموم في كل المذاهب، وغالباً رخص المذاهب الأربعة لا تكفيهم حتى يتعدوا إلى غيرها، بينما لا تجد عندهم أدنى استعداد إلى النشر والمجادلة عن اختيارات المذاهب الأربعة في الطلاق وقضاء الفوائت وغيرها من المسائل التي قولهم فيها فيه شدة.
ومن الأمور المزعجة حقاً ترويج عدد من الناس مذاهبهم عن طريق نشر ما يعلمونه من رخص مذهبهم، وكتمانهم الشدائد، في عملية دعائية لا تليق بالعلم وأهله.
ولو عولجت هذه العقلية الحدية أو التي تزعم أنها حدية لتستخدم الابتزاز العاطفي في استخراج الفتوى، لكانت مساحة البحث العلمي أكثر أماناً من الأهواء.
والتشنج الذي كان يُرمى به الموجبون تحول إلى تشنج مضاد عند الفريق الآخر، فصاروا لا يطالبون باحترام أقوالهم فحسب، بل صاروا يزعمون أن أقوال مخالفيهم التي تجعل الأفضل بلا نزاع واجباً أقوال واجبة الإخفاء لأنها تشكل عبئاً.