إقرأ المقال بصيغة كتاب رقمي:
غداً يوم عرفة ،ونسمع دائماً خطاباً وعظياً أو ترغيبياً متكرراً جزى الله المتكلِّمين به خيراً، غير أنَّني هنا اليوم سأتناول الموضوع من زاويةٍ أخرى. سيصوم الكثير جداً من المسلمين غداً يوم عرفة طمعاً بالأجر أنَّه يكفِّر السَّنة المقبلة والسَّنة الماضية، حين تقرأ ثواباً عظيماً مثل هذا في أيِّ حديثٍ من الأحاديث سواءً حديث يوم عرفة أو أي حديث، في الأذكار في الصلاة، في أمر الحج _رجع كيوم والدته أمُّه_ تذكَّر أمراً هامَّاً جدَّاً في فهم رحمة الله عزَّ وجلّ؛ وهي أنَّ الله عزَّ وجلَّ يعاملنا بالفضل لا بالعدل، هذا المفهوم يغفل عنه كثيرٌ من النَّاس الموسوسين والفُسَّاق المسرفين على أنفسهم على حدٍ سواء، من النَّاس من تجده يُقبِلُ على العبادة بوسواسٍ شديدٍ، فيتوضأ نصف ساعة، وفي الشروع بالصلاة تجده يتكلَّف ليقارن النية للتكبير فيتلعثم عند نطق تكبيرة الإحرام ويكرر لفظة “أكبر” مراراً، وحين يقرأ الفاتحة تجده يتتعتع فيها ويقف ويريد أن يخرج الحرف من مخرجه الصحيح، حتى أنَّه يتعذَّب كثيراً.
فهذا يقال له: يا أستاذ أنت تشاهد عملك ولا تشاهد رحمة الله عزَّ وجلّ، هل تظنُّ أنَّك ستعبد الله عزَّ وجلّ حقَّ عبادته -تحب أنْ تعبد الله عزَّ وجلّ عبادةً تليق به- هذا لا تقدره، ولكن اعبد الله عزَّ وجلَّ بالمتيسِّر عندك، ولن تنال أعلى الكمال من أوَّل لحظة.
شاهد رحمة الله عزَّ وجلّ، الله عزَّ وجلّ يعطيك الحسنة بعشر أمثالها، وأدلَّة ذلك أحاديث رسول الله ﴿وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً﴾ ﴿إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي﴾ وقوله تعالى: كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ، ومن الأدلِّة أيضاً هذا الأمر -صيام يوم عرفة- أي أنَّ صيام يومٍ واحدٍ يكفِّرُ لك سنة .
إذا شاهد هذا الأمر فهل تظنُّ أنَّه سبحانه وتعالى الذي يضاعف الحسنات إلى سبعمئة ضعف، وجعل دائرة المباحات أوسع من دائرة المحرمات، وهيأ لنا الكثير من أمور الخير -سبحانه وتعالى- وآتاك من الفضل الشيء العظيم، هل تظنُّه سبحانه وتعالى الذي فعل كل هذا سيحاسبك هذا الحساب الشَّديد، حتى تعنت نفسك فتخالف حتى سنة النَّبي كان يتوضَّأ بالمُدِّ ويغتسل بالصَّاع، وهو أكثر النَّاس إتقاناً للوضوء، وأنت تتوضأ بماءٍ كثير، النَّبيُّ كان يصلي ركعتي الفجر مدَّةً يسيرةً جداً، حتى أنَّ أمَّ المؤمنين تقول:(هلْ قَرَأَ بأُمِّ الكِتَابِ؟)، وله صلواتٌ أخرى يطيل فيها ويكون فيها متأنيَّاً صلوات الله وسلامه عليه، فهذا الذي فعله النَّبيُّ في التنويع في الصَّلاة طولاً وقصراً وتوسطاً، هذا ليوصل لأمَّته أنَّ القدْرَ المجزئ متنوعٌ وليس على حالةٍ واحدةٍ وعلى صورةٍ واحدةٍ، فربُّ العالمين الذي تجلَّت رحمته بهذه المغفرة العظيمة جداً لن يعنتك هذا الإعنات -لن يقبل منك صلاةً ولا طهوراً ولا أيَّ عملٍ صالحٍ إلَّا بأن تعنت نفسك هذا الإعنات الشَّديد وتدقِّق هذا التدقيق الشَّديد وتُدخل الماء في أذنك و تشدِّد في كثيرٍ من الأمور- أنت تنظر إلى عملك ولكنك غافلٌ تمام الغفلة عن رحمة الله عزَّ وجلّ وهذا سوء عقيدة.
ويقابلهم طرفٌ آخر، هذا الطرف الآخر الذي يقول لك الله غفور رحيم الله غفور رحيم ،ثمَّ هو لا يعمل ولا يصنع شيئاً، الآن هذه الكفَّارة التي في يوم عرفة -تنالها بمجرد أن تقول الله غفور رحيم، تأتيك المغفرة أم كيف تأتي المغفرة- تأتي حين تصوم أليس كذلك ،فهو الغفور الرحيم تتجَّلى رحمته بأنَّه شكورٌ غفور، يشكر على الحسنات القليلة ويكفِّر الذنوب العظيمة سبحانه وتعالى، فلا بد أن تصنع شيئاً لابد أن تفعل، حين ورد في الحديث القدسي الكلام عن رحمة الله تبارك وتعالى، قال ﴿مَن تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا﴾، يعني لابد أن تصنع شيئاً أنت ،لا أن تكون جالساً لا تصنع شيئاً- بل أنت تبتعد ثم تقول الله غفور رحيم فسيتقرب إليَّ ذراعاً، لا- المغفرة والرحمة تُطْلَبُ بالعمل، وهذا أمر أطْرِدْهُ في كلِّ فضيلةٍ تسمعها.
صحِّح عقيدتك في هذا السياق ،لأنَّ فساد العقيدة هذا أنتج لنا صنفين متضادين وهما على نفس الإشكال، الصنف الموسوس الذي يشاهد عمله ولا يشاهد رحمة الله، والصنف الاخر المتهتِّك الذي يشاهد رحمة الله ولا يشاهد العمل نهائيَّاً.
وأيضاً من الأمور التي ينبغي أن تتذكَّرها يوم عرفة، في الحجِّ، في صيام رمضان، في الإفطار: الخصوصيَّة العقائديَّة، أنت أيُّها المسلم عندك خصوصيَّة تختلف عن الآخرين، لن يحتفل معك بهذه الاحتفالات اليهودي أو النَّصراني أو البوذي أو غيرهم، وأنت أيضاً لن تحتفل باحتفالاتهم لأنَّك أنت أيضاً لك خصوصيَّة عقائديَّة ،خصوصيَّتك العقائديَّة هذه ليست خصوصيَّة ثقافيَّة تقبل التنوُّع، كثيرٌ من النَّاس ينظرون للدِّين على أنه خصوصيَّة ثقافيَّة تقبل التنوُّع، لا أبداً الدِّين خصوصية ثقافية نعم ولكن لا تقبل التنوُّع فيها حقٌّ وباطل، ولهذا أنت حين تصوم ترجو أن يكفِّر الله عنك ذنوبك، تكفير الذنوب -هذا متى تستفيد منه- تستفيد منه في الآخرة، لن يستفيد اليهودي أو النصراني من هذا لأنَّه ليس مسلماً، لهذا أنت ترغب له بأن يشاركك بهذا الأمر فتدعوه للإسلام حتى ينال هذا الفضل.
الكثير جداً من المسلمين اليوم ينظرون للمناسبات -مناسبات الأعياد وغيرها- على أنَّها من باب التنوُّع الثقافي مثل اللغة مثل اللباس، مثل قولهم نحن نعتزُّ بثقافتنا ولكن لا مشكلة عندنا في أن يعتزَّ الآخر بثقافته، لا لا لا أبداً، في أمر الدِّين أنت تعتزُّ بدينك وعقيدتك لأنَّها صواب وليس لأنَّها شيءٍ ورثته عن أجدادك أو لأنَّها شيءٌ يميِّزك عن الآخرين، أو جزءٌ من تاريخك الذي ورثته بسبب وجودك في هذه البقعة الجغرافيَّة، هذا الأمر الثاني .
الأمر الثالث هناك حديث والصحيح أنه أثرٌ موقوفٌ عن ابن عبَّاس:
﴿أخَذَ اللهُ تبارَكَ وتعالى الميثاقَ مِن ظَهْرِ آدَمَ بنَعْمانَ يعني: عَرفةَ، -وفي بعض الروايات قريبٌ من عرفة- فأخرَجَ مِن صُلْبِهِ كلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَها، فنَثَرَهُم بينَ يدَيْهِ كالذَّرِّ، ثم كلَّمَهم قُبُلًا، قال: أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ الآية﴾
موضوع الميثاق مكانه في عرفه، وغداً سيقف الحجَّاج في ذلك المكان الذي أخذ الله عز وجل فيه الميثاق أو أخذه قريباً منه، هذا أولاً يذكِّرك بالغاية من خلقك، لا تأخذك السِّياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع عن الغاية، بل كلها وسائل لأن تعرف الله عزَّ وجلّ، الله عزَّ وجلّ قال لهم: أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ، الله عزَّ وجلّ حين يفاخر الملائكة لا يفاخرهم بأنَّ هؤلاء صنعوا حضارةً أو شيء من هذا القبيل، ما ورد أنَّ الله عز وجل فاخر الملائكة بشيءٍ من هذا، بل فاخرهم بأنَّ عباده أتوه على عكس الصِّفة الحضاريَّة التي اليوم النَّاس يطلبونها ،أتوه شعثاً غبراً يطلبون مغفرته، فهذا الذي يفرحه سبحانه وتعالى ﴿لَلَّهُ أفْرَحُ بتَوْبَةِ عَبْدِهِ﴾ -لم نقل شيئاً من عندنا- هذا الميثاق هو أساس الفطرة التي في نفوس كل بني آدم،
وتجد حتى من يلحد ويكفر في كثيرٍ من الأحيان يكون سبب كفره أنَّه يعترض على الله عزَّ وجلّ لماذا لا يعجِّل الثواب والعقاب في هذه الدنيا فيقول: لماذا يُعذَّب الأطفال، لماذا الظالمون يفعلون مايشاؤون من دون رادع، هذه فطرة داخله أنَّ هذه الدنيا لابد أن يوجد فيها شيء اسمه عدل، هذا العدل عائد الى وصف فطري عنده، شيء فطره الله عزَّ وجلّ عليه -هذا الوصف الفطري هو منبع التساؤلات والاعتراضات- هو رأى عدلاً ولكن يقول لماذا لا يكون عاماً في النَّاس فَيُقال له: هناك آخرة، فحقيقةً كثيرٌ من اعتراضاتهم هي حجج لأهل الإيمان.
فينبغي أن تتذكَّر حين ترى غداً الحجَّاج على عرفة، تتذكَّر الميثاق وتتذكَّر أن هذه الغاية التي من أجلها خُلِقْتَ عبادة الله عزَّ وجلّ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ، هذه المسألة الأساسيَّة الأصليَّة كل ما سواها وسائل لها، والنقطة الأخيرة التي ينبغي أن تتذكَّرها أنَّه -لاحظ اليوم- لا أحد يصف صيام عرفة بأنَّه قشور مع أنَّه ليس واجباً، لاحظ ليس واجباً ،ومع ذلك لأنَّ فيه كفارة ،لأنَّ فيه منفعة .
كثيرٌ من الأمور التي يصفونها لك بالقشور وغير ذلك قد تكون هي الحسنة الفارقة التي ستسقل ميزانك وترجِّح حسناتك على سيئاتك، فلا يُضحَك عليك ويصف هذا بأنَّه قشور أو غير ذلك أو هذا ليس واجباً، دعك من هذا انتبه و كثِّر حسناتك وامشي لله عزَّ وجلّ، وثق تماماً أنَّك كلَّما اقتربت كلَّما قرَّبك الله عزَّ وجلّ أكثر ولكن بصحة عقيدة.
المقطع :3
النقطة النهائيَّة حين نتحدَّث عن فضل الله عزَّ وجلّ العظيم والذي يتجلَّى بالصِّيام الذي سيحصل غداً إن شاء الله تبارك وتعالى ويتجلَّى أيضاً في فضل الله عزَّ وجلّ للحجيج وتلك المغفرة العظيمة التي ستنزل على أهل الأرض، بعد هذا ينبغي أن نستحي من الله عزَّ وجلّ، أن نستثقل شعائره وشرائعه.
فكثير من الناس يستثقل ما نهى الله عنه وحرَّمه -كل حاجة حرام كل حاجة حرمتوها – ونقول لمثلهم؛ استحي من الله عزَّ وجلّ الذي يغفر لك الذنب العظيم بعملٍ صالحٍ يسير، ينبغي أن تستحي منه وترجو أكثر وأكثر، أن تُرِي له من نفسك في ترك بعض الملذَّات والشهوات طلباً لرضاه وطاعته وثقةً بمدده، فهو وعدك بالثّواب الجزيل في الآخرة وأيضاً في هذه الدُّنيا جعل لنا مواسم الفرح والسعادة والاجتماع، ولا يُدرِك ما يحصل للحاجّ من انشراح الصَّدر إلا من ذهب هناك، هذا شيءٌ أصلاً لا يوصف، هذا شيء لا يدخل في الوصف حقيقةً، أي مهما عُنيتَ بالوصف ليس الخبر كالمعاينة كما يقال، ومن فضل الله علينا أن منَّ على غير الحاجّ بالفوز بهذا الجزيل وهو صيام يوم عرفة.
ونبهت مراراً وتكراراً كيف أن الأعياد في الإسلام ترتبط بالعبادات ،فشيء مرتبطٌ بالصِّيام وشيءٌ مرتبطٌ بالحجِّ وشيء أيضاً بالصلاة _صلاة العيدين_ وأيضاً هناك زكاة الفطر وهناك صدقة الأضاحي -هذه أيضاً شبيهة بالزكاة- فهذه العبادات تجمع لنا أركان الإسلام وهذه هي الأسس الأصليَّة الكبرى التي كل شيء سواها لأجل ترسيخها وتثبيتها.
والله المستعان