وهل أحد أخشى للفقر مني؟
قال الدينوري في كتابه «المجالسة»: “١٥٩- حدثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة، نا الرياشي؛ قال: سمعت الأصمعي يقول: دخلت على هارون الرشيد يوم الجمعة، وهو يقلم أظفاره، فقلت له في ذلك، فقال: أخذ الأظفار يوم الخميس من السنة، وبلغني أن يوم الجمعة ينفي الفقر. فقلت له: يا أمير المؤمنين! وتخشى أنت أيضا الفقر؟ ! فقال: يا أصمعي! وهل أحد أخشى للفقر مني؟!“.
أقول: لعل هذا الخبر في بعض كتب ابن قتيبة التي لم تصلنا، والخبر في أن تقليم الأظفار من السنة أو أن يوم الجمعة ينفي الفقر منكر جداً، وما كان هارون عالماً بالحديث صحيحه وضعيفه، وكذلك الأصمعي على جلالته في اللغة والسنة.
وإنما أريد الوقوف مع قول هارون الرشيد: “يا أصمعي! وهل أحد أخشى للفقر مني؟”.
فكيف يقول هذا وكان يملك الدنيا؟
فمُلْك الشام؛ والعراق؛ ومصر؛ وبلاد فارس والجزيرة؛ واليمن، وغيرها في يده، واليوم المرء يكون مسئولاً في محافظة صغيرة في بلد من هذه البلدان فتراه آمناً من الفقر، متكبراً على الخلق، هذا حال الناس إلا ما رحم ربي.
فما الفقر الذي يخشاه هارون وقد علمت من حاله ما علمت؟
فأقول: تفسير ذلك عندي من وجهين:
الأول: أنه أراد أنه مسئول عن الرعية وأن افتقار بعضهم بمنزلة افتقاره؛ لأنه مسئول عنهم محاسب أمام الله، بل الفقير قد يفتقر فيصبر ويتعفف فيؤجر على فقره، ولكن يؤزر ويحاسب السلطان الذي تسبب بإفقاره، فاعتبَر فقر الناس فقراً له لأنه ينال منه حساباً.
وفقر المرء وغناه متعلق بعدة عوامل:
-العامل السلطوي (عدل السلطان وجوره، وأدائه للحقوق).
-العامل التكافلي (تكافل الناس فيما بينهم برابطة النسب، ورابطة الدين، أو مطلق البر).
-العامل الشخصي (حسن تدبير المرء).
ولا يشترط اجتماعها كلها لتحصيل الغنى والكفاية، أو ذهابها كلها لحصول الفقر، وحضورها وذهابها نسبي، فقد يقوى تدبير المرء فلا يضره جور السلطان، وقد يعظم جور السلطان فلا ينفع معه حسن تدبير، ولكن قد يخفف أثره.
فبعض أئمة الجور يأكل الحقوق، ويمنع الناس حقوقهم، ويُقنع الناس أن فقرهم وغناهم إنما يأتي من ضعف تدبيرهم وقوَّته، ويكثِّف بذكر أمثلة أهل الغنى ممن حَسُن تدبيرهم، ليقول للناس: لا ذنب لي إنما الذنب ذنبكم.
وكذلك بعض أهل البخل من الأغنياء يمنع الناس حقوقهم الشرعية، ويتحجج بمثل هذا.
وقد جاء القرآن بدفع هذا {والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم}، وغيرها من الآيات.
وبعض أهل الكسل وأهل التبذير وسوء التدبير يُرجعون أسباب فقرهم إلى غيرهم، من جور سلطان أو تقصير قرابة أو أغنياء، وقد يوجد هذا الذي يذكرونه وقد لا يوجد، وقد يوجد ولكن لا يكون السبب الوحيد.
وقد جاءت الشريعة في إبطال هذا، فحثت على طلب الرزق وذمت المسألة بغير حاجة، كما جاء في الحديث: «لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مِرَّة سوي»، يعني لا يحل له أن يسأل، وأما إن أعطاه الغني فلا شيء على الغني، بل هو مجزئ له في زكاته (نبه على هذا المعنى الترمذي في جامعه).
وأما اليوم: فالمؤسسات الرأسمالية تلغي العامل السلطوي، وتحاول إبطال التكافلية ما استطاعت؛ لتنفرد بالناس ويمكنها أن تستعبدهم.
فالتاجر المرابي أكثر ما يَبغضُه: الصدقة؛ والزكاة؛ والتكافل؛ لأنها تصد الفقير عنه، فلا يمكنه أن يستفيد من إقراضه بالفائدة، وكذا من يستغل الناس فيكدهم في العمل ويحصِّل من ورائهم أموالاً طائلة، ويعطيهم فتاتاً.
الثاني:
في تفسير خبر هارون: أنه أراد الفقر بالمعنى الأعم، وهو فقر الحسنات، كما جاء في الحديث: «أتدرون من المفلس؟»، فذكر رجلاً كثير الحسنات أذهبت حسناته حقوق الخلق، وأكثر من يُخشى عليه الولاة؛ لأن حقوق عامة الخلق تتعلق بهم، وكم من إنسان كان يغبطهم في الدنيا سيقول الحمد لله أنني لست منهم يوم القيامة لِما يرى من شدة الحساب، وقد مُثِّل لنا بعض هذا في قصة قارون في القرآن.
وكم من إنسان يتعوذ من الفقر ولا يخطر في باله المعنى الأعم للفقر، وقد ورد في الحديث: «والفقر فقر القلب» فتجد المرء غنياً ولكن قلبه فقير، عامة الفقراء أسخى منه على المحتاج، فلم ينتفع بماله في الوصول إلى الله، فكان كالفقير وأشد، فالفقير إن احتسب مأجور على فقره، وإن قال في نفسه: “إن آتاني الله مالاً تصدقت” كان له أجر النية.
وأما هذا البخيل فقد تم خسرانه.
ومنهم من يضيِّع ماله بإيتائه للسفهاء من أهله؛ فلم ينتفع به في دنياه ولا في آخرته، ولا كنَزَه لمن بعده، وهذا أتمُّ الناس خسارة وأعظمهم فقراً، ولا سيما إذا أعطاه لمن يكفر العشير ولا يشكره.