قال سعيد بن محمد بن أحمد الأفغاني (المتوفى: 1417هـ) في كتابه «أسواق العرب في الجاهلية والإسلام» صـ453: “قرأ فريق من أهل الفضل، مقدمة الكتاب عقب طبعها، فرأوا من الحق الواجب علينا، وقد عرضنا لذكر “معرض دمشق وسوقها” وأثنينا على ما فيه من كل نفيس معجب، أن نثبت ما يلي:
أساءت إدارة هذا المعرض إلى الأمة وكرامتها كل الإساءة؛ في إباحتها القمار والخمر، وفي غضّها الطرف عن مفاسد كثيرة نشأت عن اختلاط الرجال بالنساء، وفي إحيائها الليالي الساهرة تقيم فيهن الحفلات الراقصة، يتصدرها أشخاص رسميون، بينا كان العرب في فلسطين يخوضون الدماء ويسلط على رءوسهم شواظ وقذائف وحمم، وهم يكافحون ويجالدون ويصابرون عدوين ألدين؛ الإنجليز واليهود، ويتعرضون لنار جيشين قويين. فليتنا إذ لم نقم بحق نجدة إخواننا، راعينا المروءة والذوق على الأقل، فنزهنا معرضنا عن المظاهر المزرية.
ولئن كان المعرض قد مثل الشام بمصنوعاته ونفائسه التي كانت بحق مفخرة من أعظم مفاخر هذه الأمة المجيدة، فإن إدارته لم تكن -فيما أباحت- تمثل البلاد بشيء، فقد شذت عن كل إدارات المعارض التي سبقتها، إذ خصصت هذه أياما للنساء وأياما للرجال، ولم تندفع في سبيل التقليد السخيف اندفاع المعرض الأخير، فكانت بذلك أصدق خبرا عن البلاد التي أقامتها.
ولكل أمة تقاليد كريمة وأخلاق وشعور، لا تقوم لها قائمة ولا يحترم لها مكانة، إلا إذا تمسكت بها تمسك الغريق بحبال النجاة، وأيما امرئ خرج على شيء منها فقد خرج على أمته وبلاده.
نقول هذا, ونحن لا ينقضي عجبنا من أن تصدر تلك الكبائر عن معرض دمشق، بينما مديره الذي أطلقت يده في إدارته وموظفيه، رجل معروف بمتانة الخلق وصحة المبدأ، والصلابة في تطبيقه.
ولكن يظهر أن الشأن ليس -دائما- في إحسان اختيار الرأس.
إن الناس كانوا إذا قرءوا في الصحف أخبار فلسطين وما يدوي في أجوائها من رصاص وبارود … قطع عليهم قراءتهم أصوات الأسهم النارية تطلق في جو المعرض ابتهاجا بغير شيء، فكان الألم يرتسم علائمه على وجوه أكثر الشاميين. وكان على الصحف التي تمثل الرأي العام, وعلى الطبقات المثقفة وأهل الحل والعقد أن ينكروا ما يثلم كرامة البلد ويمس مروءته، لكنه لم يرتفع في استنكار ذلك -مع الأسف- صوت، إلا صوت بعض الجمعيات الدينية، التي استحيت لدمشق بلد الفضيلة أن تؤذى في سمعتها.
هذه كلمة نقولها للحق والتاريخ, وقد مضى على انفضاض المعرض ثمانية أشهر”.
أقول: هذا الكلام كُتِب عام 1936!
قبل قرابة تسعين عاماً من اليوم، وهو يصدق على أناس يعيشون بيننا اليوم، فما زال أهل فلسطين يتجرَّعون ما يتجرَّعون، وما زال أقوام ينطبق عليهم قول الأفغاني: “فليتنا إذ لم نقم بحق نجدة إخواننا، راعينا المروءة والذوق على الأقل”.
وسبحان الله ما أشبه الليلة بالبارحة.