وقعة الزلاقة ( يوم من أيام الله أرعبت فيه الجمال خيول الروم )
كان أبو عبد الله المعتمِد محمد بن عبَّاد أعظم ملوك الأندلس من المسلمين
وكان يملك أكثر البلاد مثل قرطبة وإشبيلية، وكان يؤدي إلى (الأذفونش) ضريبة
كل سنة، فلما ملك الأذفونش طليطلة لم يقبل ضريبة المعتمد وأرسل إليه يتهدده
ويقول له: تنزل عن الحصون التي بيدك ويكون لك السهل فغضب المعتمد وقتل الفرسان الذين مع الرسول
جاء في الكامل لابن الأثير : سمع مشايخ قرطبة بما جرى، ورأوا قوة الفرنج، وضعف المسلمين، واستعانة بعض ملوكهم بالفرنج على بعض، اجتمعوا وقالوا: هذه بلاد الأندلس قد غلب عليها الفرنج، ولم يبق منها إلا القليل، وإن استمرت الأحوال على ما نرى عادت نصرانية كما كانت.
وساروا إلى القاضي عبد الله بن محمد بن أدهم، فقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصغار والذلة، وعطائهم الجزية بعد أن كانوا يأخذونها، وقد رأينا رأيا نعرضه عليك. قال: ما هو؟ قالوا: نكتب إلى غرب إفريقية ونبذل لهم، فإذا وصلوا إلينا قاسمناهم أموالنا، وخرجنا معهم مجاهدين في سبيل الله. قال: نخاف، إذا وصلوا إلينا، يخربون بلادنا، كما فعلوا بإفريقية، ويتركون الفرنج ويبدءون بكم، والمرابطون أصلح منهم وأقرب إلينا.
قالوا له: فكاتب أمير المسلمين، وارغب إليه ليعبر إلينا، ويرسل بعض قواده.
وقدم عليهم المعتمد بن عباد، وهم في ذلك، فعرض عليه القاضي ابن أدهم ما كانوا فيه، فقال له ابن عباد: أنت رسولي إليه في ذلك، فامتنع، وإنما أراد أن يبرئ نفسه من تهمة، فألح عليه المعتمد، فسار إلى أمير المسلمين (يوسف بن تاشفين) ، فأبلغه الرسالة، وأعلمه ما فيه المسلمون من الخوف من الأذفونش.
وكان أمير المسلمين بمدينة سبتة، ففي الحال أمر بعبور العساكر إلى الأندلس، وأرسل إلى مراكش في طلب من بقي من عساكره، فأقبلت إليه تتلو بعضها بعضا، فلما تكاملت عنده عبر البحر وسار، فاجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان قد جمع عساكره أيضا، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير، وقصده المتطوعة من سائر بلاد الأندلس.
ووصلت الأخبار إلى الأذفونش، فجمع فرسانه وسار من طليطلة، وكتب إلى أمير المسلمين كتابا كتبه له بعض أدباء المسلمين، يغلظ له القول، ويصف ما عنده من القوة والعدد والعدد، وبالغ الكاتب في الكتاب. فأمر أمير المسلمين أبا بكر بن القصيرة أن يجيبه، وكان كاتبا مفلقا، فكتب فأجاد، فلما قرأه على أمير المسلمين قال: هذا كتاب طويل، أحضر كتاب الأذفونش واكتب في ظهره الذي يكون سترا له.
فلما عاد الكتاب إلى الأذفونش ارتاع لذلك، وعلم أنه بلي برجل له عزم وحزم، فازداد استعدادا، فرأى في منامه كأنه راكب فيل، وبين يديه طبل صغير، وهو ينقر فيه، فقص رؤياه على القسيسين، فلم يعرفوا تأويلها فأحضر رجلا مسلما، عالما بتعبير الرؤيا، فقصها عليه، فاستعفاه من تعبيرها، فلم يعفه، فقال: تأويل هذه الرؤيا من كتاب الله العزيز، وهو قوله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} [الفيل: 1] ، وقوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور – فذلك يومئذ يوم عسير – على الكافرين غير يسير} [المدثر: 8 – 10] ، ويقتضي هلاك هذا الجيش الذي تجمعه.
فلما اجتمع جيشه رأى كثرته فأعجبته، فأحضر ذلك المعبر، وقال له: بهذا الجيش ألقى إله محمد، صاحب كتابكم، فانصرف المعبر، وقال لبعض المسلمين: هذا الملك هالك وكل من معه، وذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ” «ثلاث مهلكات» ” الحديث، وفيه: ” «وإعجاب المرء بنفسه المسلمين: إن ابن عباد ربما لم ينصح، ولا يبذل نفسه دونك. فأرسل إليه أمير المسلمين يأمره أن يكون في المقدمة، ففعل ذلك، وسار، وقد ضرب الأذفونش خيامه في لحف جبل، والمعتمد في سفح جبل آخر، يتراءون، وينزل أمير المسلمين وراء الجبل الذي عنده المعتمد، وظن الأذفونش أن عساكر المسلمين ليس إلا الذي يراه
إلى أن قال ابن الأثير :.
.
وكان المعتمد قد أرسل إلى أمير المسلمين يعلمه بمجيء الفرنج للحرب، فقال: احملوني إلى خيام الفرنج، فسار إليها، فبينما هم في القتال وصل أمير المسلمين إلى خيام الفرنج، فنهبها، وقتل من فيها، فلما رأى الفرنج ذلك لم يتمالكوا أن انهزموا، وأخذهم السيف، وتبعهم المعتمد من خلفهم، ولقيهم أمير المسلمين من بين أيديهم، ووضع فيهم السيف، فلم يفلت منهم أحد، ونجا الأذفونش في نفر يسير
وذكر ابن خلكان أن يوسف بن تاشفين أمر بعبور الجمال فعبر منها ما أغص الجزيرة، وارتفع رغاؤها إلى عنان السماء، ولم يكن أهل الجزيرة رأوا جملاً قط ولا خيلهم، فصارت الخيل تجمح من رؤية الجمال ومن رغائها، وكان ليوسف في عبور الجمال رأي مصيب، فكان يحدق بها عسكره، ويحضرها للحرب، فكانت خيل الفرنج تجمح منها، وقدم يوسف بين يديه كتاباً للأذفونش يعرض عليه فيه الدخول في الإسلام أو الجزية أو الحرب، كما هي السنة.
والعبرة في هذه الحكاية ظاهرة خصوصاً في موقف القضاة الذين رأوا أن الاستعانة بمسلم ونقاسمه مالنا خير من الذلة لكافر لا نأمن معه على ديننا وأموالنا وأعراضنا