والله ولا أنا أستطيع أن أقول …

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (7/152) :” قَالَ عَوْنُ بنُ عُمَارَةَ:
سَمِعْتُ هِشَاماً الدَّسْتُوَائِيَّ يَقُوْلُ:

وَاللهِ مَا أَسْتَطِيْعُ أَنْ أَقُوْلَ إِنِّي ذَهَبتُ يَوْماً قَطُّ
أَطْلُبُ الحَدِيْثَ، أُرِيْدُ بِهِ وَجْهَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

قُلْتُ – القائل الذهبي – : وَاللهِ وَلاَ أَنَا، فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ
يَطلُبُوْنَ العِلْمَ للهِ، فَنَبُلُوا، وَصَارُوا أَئِمَّةً يُقتَدَى بِهِم، وطَلَبَهُ
قَوْمٌ مِنْهُم أَوَّلاً لاَ للهِ، وَحَصَّلُوْهُ، ثُمَّ اسْتَفَاقُوا، وَحَاسَبُوا
أَنْفُسَهُم، فَجَرَّهُمُ العِلْمُ إِلَى الإِخْلاَصِ فِي أَثنَاءِ الطَّرِيْقِ

 كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُ:

طَلَبْنَا هَذَا العِلْمَ، وَمَا لَنَا فِيْهِ كَبِيْرُ نِيَّةٍ، ثُمَّ
رَزَقَ اللهُ النِّيَّةَ بَعْدُ.

وَبَعْضُهُم يَقُوْلُ: طَلَبْنَا هَذَا العِلْمَ لِغَيْرِ اللهِ، فَأَبَى
أَنْ يَكُوْنَ إِلاَّ للهِ، فَهَذَا أَيْضاً حَسَنٌ، ثُمَّ نَشَرُوْهُ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ.

وَقَوْمٌ طَلَبُوْهُ بِنِيَّةٍ فَاسِدَةٍ لأَجْلِ الدُّنْيَا، وَلِيُثْنَى
عَلَيْهِم، فَلَهُم مَا نَوَوْا. قَالَ

عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: (مَنْ غَزَا يَنْوِي عِقَالاً، فَلَهُ
مَا نَوَى ) .

وَترَى هَذَا الضَّربَ لَمْ يَسْتَضِيْؤُوا بِنُوْرِ العِلْمِ، وَلاَ لَهُم
وَقْعٌ فِي النُّفُوْسِ، وَلاَ لِعِلْمِهِم كَبِيْرُ نَتِيجَةٍ مِنَ العَمَلِ، وَإِنَّمَا
العَالِمُ مَنْ يَخشَى اللهَ -تَعَالَى-.

وَقَوْمٌ نَالُوا العِلْمَ، وَوُلُّوا بِهِ المَنَاصِبَ، فَظَلَمُوا، وَتَرَكُوا
التَّقَيُّدَ بِالعِلْمِ، وَرَكِبُوا الكَبَائِرَ وَالفَوَاحِشَ، فَتَبّاً لَهُم، فَمَا
هَؤُلاَءِ بِعُلَمَاءَ!

وَبَعْضُهُم لَمْ يَتَقِّ اللهَ فِي عِلْمِهِ، بَلْ رَكِبَ الحِيَلَ، وَأَفْتَى
بِالرُّخَصِ، وَرَوَى الشَّاذَّ مِنَ الأَخْبَارِ.

وَبَعْضُهُم اجْتَرَأَ عَلَى اللهِ، وَوَضَعَ الأَحَادِيْثَ، فَهَتَكَهُ
اللهُ، وَذَهَبَ عِلْمُهُ، وَصَارَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ.

وَهَؤُلاَءِ الأَقسَامُ كُلُّهُم رَوَوْا مِنَ العِلْمِ شَيْئاً كَبِيْراً،
وَتَضَلَّعُوا مِنْهُ فِي الجُمْلَةِ، فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِم خَلْفٌ باَنَ نَقْصُهُم
فِي العِلْمِ وَالعَمَلِ.

وَتَلاَهُم قَوْمٌ انْتَمَوْا إِلَى العِلْمِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ يُتْقِنُوا
مِنْهُ سِوَى نَزْرٍ يَسِيْرٍ، أَوْهَمُوا بِهِ أَنَّهُم عُلَمَاءُ فُضَلاَءُ، وَلَمْ
يَدُرْ فِي أَذهَانِهِم قَطُّ أَنَّهُم يَتَقَرَّبُوْنَ بِهِ إِلَى اللهِ؛ لأَنَّهُم
مَا رَأَوْا شَيْخاً يُقْتَدَى بِهِ فِي العِلْمِ، فَصَارُوا هَمَجاً رَعَاعاً، غَايَةُ
المُدَرِّسِ مِنْهُم أَنْ يُحَصِّلَ كُتُباً مُثَمَّنَةً، يَخْزُنُهَا، وَيَنْظُرُ
فِيْهَا يَوْماً مَا، فَيُصَحِّفُ مَا يُوْرِدُهُ، وَلاَ يُقَرِّرُهُ.

فَنَسْأَلُ اللهَ النَّجَاةَ وَالعَفْوَ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُم: مَا أَنَا
عَالِمٌ، وَلاَ رَأَيتُ عَالِماً”

إيه يا أخي ما أحسب أن هذا الكلام إلا هيض أشجانك كما فعل بي ، ولا تدري
عند حرف من كلامه تقف ، وأي حرف من كلامه يحملك الحياء على أن تتجاوزه

أرأيت أخي أولئك الذين يتناطحون على الرياسة وأشغلوا الخلق عن العلم بهذا
النطاح ، فمن أي الأصناف هم

 أم هم تحت هذه الأصناف كلها
؟!

قال المروذي في الورع ص96 :” وقال يوسف بن اسباط قال سفيان ما راينا
الزهد في شيء اقل منه في الرياسة ترى الرجل يزهد في المال والثياب والمطعم فإذا نوزع
في الرياسة حامى عليها وعادى “

وهذا يقوله في ذلك الزمن الطيب فما عساي أقول وقد بقيت في خلف كجلد الأجرب

قال أبو داود في الزهد 112 – : نا محمد بن كثير ، قال : أنا شعبة ، عن
إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن الزبير قال : من استطاع أن تكون له
خبيئة من عمل صالح فليفعل .

وهذا والله أثر عجيب فهو يقول ( من استطاع أن يكون له خبيئة ) لتعذر ذلك
على النفوس فكثيرون يعمل العمل الصالح ويحب أن يعلم مكانه ويحدث بذلك ويذيعه ، وما
ينال هذا الأمر إلا المخلصين حقاً

وهناك كتاب جليل في هذا الباب وهو الإخلاص والنية لابن أبي الدنيا أنصح
كل مسلم بقراءته فإنه على صغر حجمه عظيم الفائدة في هذا الباب الذي لا يستغني عنه مسلم

وقف عند قول الذهبي في آخر كلامه : ( كَمَا قَالَ بَعْضُهُم: مَا أَنَا
عَالِمٌ، وَلاَ رَأَيتُ عَالِم)

قال الدارمي في مسنده 294 – أخبرنا الحسن بن عرفة ثنا المبارك بن سعيد
عن أخيه سفيان الثوري عن عمران المنقري قال : قلت للحسن يوما في شيء قاله يا أبا سعيد
ليس هكذا يقول الفقهاء فقال ويحك ورأيت أنت فقيها قط إنما الفقيه الزاهد في الدنيا
الراغب في الآخرة البصير بأمر دينه المداوم على عبادة ربه

وقال أبو نعيم في حلية الأولياء (3/ 362) : حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدِ بْنُ
جَبَلَةَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ
سُفْيَانَ يَقُولُ: ” كُنْتُ أَسْمَعُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ،
وَكَانَ مِنْ أَوْعِيَةِ الْعِلْمِ، وَلَا يَقُولُ: كَانَ عَالِمًا “

وقال ابن بطة في إبطال الحيل ص16 :” قد اقتصرت يا أخي – صانك الله
– من صفة الفقيه على ما أوردت ، وكففت عن أضعاف ما أردت ، فإني ما رأيت الإطالة بالرواية
في هذا الباب متجاوزة ما قصدنا من جواب المسألة . نعم ، أيضا وتهجين لنا ، وسبة علينا
، وغضاضة على الموسومين بالعلم والمتصدرين للفتوى من أهل عصرنا ، مع عدم العالمين لذلك
والعاملين به . فأسأل الله أن لا يمقتنا فإنا نعد أنفسنا من العلماء الربانيين والفقهاء
الفهماء العارفين ، ونحسب أنا أئمة متصدرون علما وفتيا ، وقادة أهل زماننا ، ولعلنا
عند الله من الفاجرين ومن شرار الفاسقين”

فالزهري يتحفظ من كلمة ( عالم ) وهو في زمن التابعين ، والحسن لا يرى في
عصره فقيهاً ( وذلك بعد انقراض عصر الصحابة ) ، وابن بطة يزيل هذا الوصف عن نفسه وعن
عامة أهل عصره ، وكذا يصنع الذهبي

فما أهون كلمة ( عالم ) اليوم !

والله المستعان

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم