هي أكثر الوحي فكيف نستهين بها؟

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

هي أكثر الوحي فكيف نستهين بها؟

قال ابن تيمية -رحمه الله- في شرح الأصبهانية: “والتحقيق أن الخبر يدل أيضا على أنه متكلم، كما أن الأمر يدل على ذلك، والرسل يبلغون عنه تارة الأمر والنهي، وتارة الخبر. إما عن نفسه وإما عن مخلوقاته فيبلغون خبره عن نفسه بأسمائه وصفاته، وخبره عن مخلوقاته بالقصص، كما يبلغون الخبر عن ملائكته وأنبيائه، ومن تقدم من الأمم المؤمنين والمكذبين ويبلغون خبره عما يكون في القيامة من الثواب والعقاب، والوعد والوعيد بل ما تبلغه الرسل من خبره أكثر ممّا تبلغه من أمره، والخبر في القرآن أكثر من الأمر”.

تأمل قوله: (ما تبلغه الرسل من خبره أكثر مما تبلغه من أمره).

هذه العبارة الجليلة من الشيخ نحتاج أن نقف معها في هذه الأيام، فإن كثيراً من الناس يستهينون بالأخبار الغيبية الواردة عن الله وملائكته ورسله وكتبه وخلق السماوات والأرض وغيرها من الأمور بحجة أن هذه لا يترتب عليها عمل، فيكتفون فيها بالإيمان الإجمالي ويكرهون الإيمان التفصيلي.

ولا يفرقون بين الإيمان التفصيلي المستفاد من النصوص و فضول الكلام والمباحث الكلامية الفاسدة.

علماً أن رد المباحث الكلامية الفاسدة هو من صيانة الإيمان.

وبعضهم إذا قرأ قول بعض أهل العلم في كراهية المسائل التي لا يترتب عليها عمل يدخل في ذلك مسائل الغيبيات الكبرى التي تنازع فيها أهل الملة وكفّر بعضهم بعضاً أو ضلل بعضهم بعضاً، أو عموم مسائل الغيبيات التفصيلية كمسائل الأسماء والصفات والقدر وما يسمى بالسمعيات (الإيمان بعذاب القبر، والحوض، والميزان، والصراط ونحوها).

وليس الأمر كذلك، فالعمل في لسان أهل العلم يطلق على العمل بالجوارح وكذلك العمل القلبي، والإيمان بالغيب محمود في النصوص، وهو من ضمن العمل القلبي.

ومن الناس من يحصر المسائل المهمة بالمسائل ذات المتعلقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مما يجتمع المسلم والكافر في اعتبارها مسائل مهمة، غير أن للمسلم فيها مذاهب تختلف عن مذاهب الكافر.

وكثير من أهل الجهل يفترضون الفصل بين الإيمان الغيبي والعمليات، أو الفصل بين العمليات مثل الصلاة والنذر ونحوها والعمليات ذات المتعلقات الحقوقية كمباحث علاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة الزوج بالزوجة وعموم الأمور الأسرية والاجتماعية والصحية النفسية والبدنية.

وليس الأمر كذلك، فكله متداخل. فكلما زاد إيمان الإنسان بالغيب كلما كان ذلك أدنى لاستقامة عبادته العملية.

قال تعالى: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا (107) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108) ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا}[الإسراء]

فربط سبحانه بين إيمانهم بالغيب وخشوعهم في الصلاة.

وقال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}[العنكبوت]

وهنا ربط بين استقامة العبادة واستقامة المعاملات مع الناس.

وقد يعتقد المرء اعتقاداً فاسداً فيحبط عمله كما قال ابن عمر للقدرية متوعداً لهم: (لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا، فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر).

واليوم بلغت الجرأة في بعض الناس أن يستهينوا بالأبحاث الشرعية المتعلقة بأعظم عبادة وهي عبادة الصلاة كأبحاث الطهارة والمسح على الخفين.

وبعض الناس يريدون أن يأخذوا من الغيبيات الجانب الوعظي فحسب دون النظر إلى جانب الرد على المخالفين والمبطلين الذين كفروا بهذه الغيبيات أو حرفوها.

وكل هذه مسالك فاسدة تخالف ما كان عليه السلف الصالح، وهم أنصح الناس وأحرصهم على ما في الكتاب والسنة وأعلمهم بما تدل عليه من معانٍ.