فهناك كلمة للذهبي قالها في سير أعلام النبلاء
، واتخذها بعض الناس منهجاً ، ولم يدرس حيثيات الكلمة وهل الذهبي كان مصيباً أو مخطئاً
فيها ؟
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/40) :” قَالَ الحَافِظُ أَبُو
عَبْدِ اللهِ بنُ مَنْدَةَ فِي مَسْأَلَةِ الإِيْمَان: صَرَّحَ مُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ
فِي كِتَاب (الإِيْمَان) بِأَنَّ الإِيْمَانَ مَخْلُوْقٌ، وَأَنَّ الإِقْرَارَ، وَالشَّهَادَةَ،
وَقرَاءةَ القُرْآنِ بِلَفْظِهِ مَخْلُوْقٌ.
ثُمَّ قَالَ: وَهَجَرَهُ عَلَى ذَلِكَ عُلَمَاءُ وَقتِهِ، وَخَالفَهُ أَئِمَّةُ
خُرَاسَانَ وَالعِرَاقِ.
قُلْتُ: الخَوْضُ فِي ذَلِكَ لاَ يَجُوْزُ، وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوْزُ أَنْ
يُقَالُ: الإِيْمَانُ، وَالإِقْرَارُ، وَالقِرَاءةُ، وَالتَّلَفُّظُ بِالقُرْآنِ غَيْرَ
مَخْلُوْقٍ، فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ العبَادَ وَأَعمَالَهُمُ، وَالإِيْمَانُ: فَقَوْلٌ
وَعمَلٌ، وَالقِرَاءةُ وَالتَّلَفُّظُ: مِنْ كَسْبِ القَارِئِ، وَالمَقْرُوءُ المَلْفُوظُ:
هُوَ كَلاَمُ اللهِ وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيلُهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوْقٍ.
وَكَذَلِكَ كَلِمَةُ الإِيْمَانِ،
وَهِيَ قَوْلُ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ) دَاخلَةٌ فِي القُرْآنِ،
وَمَا كَانَ مِنَ القُرْآنِ فلَيْسَ بِمَخْلُوْقٍ، وَالتَّكَلُّمُ بِهَا مِنْ فِعْلنَا،
وَأَفعَالُنَا مَخْلُوْقَةٌ.
وَلَوْ أَنَّا كلَّمَا أَخْطَأَ
إِمَامٌ فِي اجْتِهَادِهِ فِي آحَادِ المَسَائِلِ خَطَأً مَغْفُوراً لَهُ، قُمْنَا
عَلَيْهِ، وَبدَّعْنَاهُ، وَهَجَرْنَاهُ، لَمَا سَلِمَ مَعَنَا لاَ ابْنَ نَصْرٍ، وَلاَ
ابْنَ مَنْدَةَ، وَلاَ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمَا، وَاللهُ هُوَ هَادِي الخَلْقِ
إِلَى الحَقِّ، وَهُوَ أَرحمُ الرَّاحمِينَ، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الهوَى وَالفظَاظَةِ”
وقد قال الذهبي في تاريخ الإسلام :” لو أننا كلما أخطأ إمام مجتهد
في مسألة خطأً مغفوراً له هجرناه وبدعناه، لما سلم أحد من الأئمة، والله الهادي للحق،
والراحم للخلق”
أقول : هنا الذهبي يخالف ابن مندة وأئمة خراسان والعراق وينعتهم بالفظاظة
!
فلننظر إلى مسألة الإيمان مخلوق ماذا قال فيها الأئمة ، فهل هي زلةٌ يسيرة
؟
وهل كان العلماء يهونون في هجر
من يقول مثل هذا ؟
قال الخلال في السنة 1701: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ , قَالَ : حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى الْبَزَّازُ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ
: قَدِمَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ صُورٍ مُعَرَّفٌ بِالصُّورِيِّ مُتَكَلِّمٌ , حَسَنُ
الْهَيْئَةِ كَأَنَّهُ رَاهِبٌ , فَأَعْجَبَنَا أَمْرُهُ , ثُمَّ إِنَّمَا لُقِيَ سَائِلاً
فَجَعَلَ يَقُولُ لَنَا : الإِيمَانُ مَخْلُوقٌ , وَالزَّكَاةُ مَخْلُوقَةٌ , وَالْحَجُّ
مَخْلُوقٌ , وَالْجِهَادُ مَخْلُوقٌ , فَجَعَلْنَا لاَ نَدْرِي مَا نَرُدُّ عَلَيْهِ
, فَأَتَيْنَا عَبْدَ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقَ , فَقَصَصْنَا عَلَيْهِ أَمْرَهُ , فَقَالَ
: مَا أَدْرِي مَا هَذَا ؟ ائْتُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ ؛
فَإِنَّهُ جَهْبَذُ هَذَا الأَمْرِ , قَالَ أَبِي : فَأَتَيْنَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
, فَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي
أَلْقَاهَا عَلَيْنَا , فَقَالَ لَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : هَذِهِ مَسَائِلُ الْجَهْمِ
بْنِ صَفْوَانَ , وَهِيَ سَبْعُونَ مَسْأَلَةً , اذْهَبُوا فَاطْرُدُوا هَذَا مِنْ
عِنْدِكُمْ.
فهذا الإمام أحمد يأمر بهجر من قال تلك الكلمة ( الإيمان مخلوق ) ، فما
سار عليه أئمة خراسان والعراق هو منهج أحمد ابن حنبل ووصيته لطلبته ، وقد نقل كلام
الإمام أحمد ابن بطة في الإبانة
وقال قوام السنة الأصبهاني في الحجة (2/280) :” قَالَ عُلَمَاء السّلف:
أول مَا افْترض الله عَلَى عباده الْإِخْلَاص وَهُوَ معرفَة الله وَالْإِقْرَار بِهِ،
وطاعته بِمَا أَمر وَنهى، وَأول الْفَرْض شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده
لَا شريك لَهُ، وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
.
وَأَن الله تبَارك وَتَعَالَى
خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش كَمَا
وصف نَفسه .
فَهُوَ بِجَمِيعِ صِفَاته، وَجَمِيع كَلَامه لم يزل، وَلَا يزَال، وَلَا
يَخْلُو من علمه شَيْء، وَلَا مَكَان وَهُوَ الْمُتَكَلّم السَّمِيع الْبَصِير يرَاهُ
الْمُؤْمِنُونَ فِي الْآخِرَة، ويسمعون كَلَامه وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ كَمَا ينظرُونَ
إِلَى الشَّمْس وَالْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر إِذا لم يكن دونه سَحَاب.
وَعلم الله وَصِفَاته كلهَا غير
مخلوقة وَهُوَ وَاحِد بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاته، وَالْقُرْآن كَلَامه غير مَخْلُوق،
وَمن قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فَهُوَ جهمي، وَمن قَالَ: الْإِيمَان مَخْلُوق
فَهُوَ مُبْتَدع، وَالصَّوَاب أَن تَقول: صِفَات الله، وَعلم الله، وَكَلَام الله وَأَسْمَاء
الله غير مَخْلُوق والخلق وأفعالهم وحركاتهم مخلوقة لَا يزِيد عَلَى هَذَا شَيْئاً
“
فنقل هذا الإمام اتفاق السلف على تبديع من أطلق ( الإيمان مخلوق )
قال الجوزقاني في الأباطيل والمناكير (1/185) :” 51 – سَمِعْتُ أَبَا
الْفَضْلِ الْمَقْدِسِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مَنْدَهْ، يَقُولُ: سَمِعْتُ
أَبِي، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: ” رَأْسُ الْإِيمَانِ التَّوْحِيدُ، وَهُوَ
قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِيمَانَ مَخْلُوقٌ، فَقَدْ
زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ مُوَحَّدًا حَتَّى خَلَقَ التَّوْحِيدَ،
فَوُحِّدَ بِهِ، وَهَذَا مِنْ أَقَاوِيلِ الزَّنَادِقَةِ، خَذَلَهُمُ اللَّهُ
“
فهذا الجوزقاني ينقل كلام ابن مندة ويقره ، وهذا الإمام أحمد له كلامٌ
شديد في اللفظية لا يخفى على أحد ، وأيضاً فيمن أجاب في المحنة ، ولم يتجرأ أحد على
وصفه بالفضاضة بل ينبغي الأدب مع أئمة أهل الإسلام
وقد قال الذهبي نفسه في تاريخ الإسلام :” 120 – الفضل بن العبّاس.
الحافظ أبو بكر الرذازيّ، ولقبه: فضلك الصّائغ.
رحل وطوّف، وحدَّث عن: بن مينا قالون، وقتيبة بن سعيد، وعبد العزيز بن
عبد الله الأويسيّ، وخلق كثير.
وعنه: محمد بن مخلد العطّار، وأبو عوانة، ومجمد بن المطيريّ، أبو بكر الخرائطّي،
وجماعة.
توفّي في صفر سنة سبعين.
قال المرُّوذيّ: ورد عليَّ كتاب من ناحية شيراز أنّ فضلك قال ببلدهم: إنّ
الإيمان مخلوق، فبلغني أنهّم أخرجوه من البلد بأعوان الوالي.
وقال لي أحمد بن أصرم المزنيّ: كنت بشيراز وقد أظهر فضلك أنّ الإيمان مخلوق
وأفسد قوماً من المشيخة فحذَّرت منه، وأخبرتهم أن أحمد بن حنبل جهَّم من قال بالعراق:
إنّ القرآن مخلوق. وبيَّنا أمره حتى أخرج. ودخلت إصبهان فإذا قد جاء إليهم، وأظهر عندهم
أنّ الأيمان مخلوق فأخرج منها.
وقال المرُّوذيّ: ما زلنا بهجر فضلك حتى مات ولم يظهر توبةً فأخرج منها”
ثم إن هجرهم للمروزي ، قد يحمل على شدة الغيرة على السنة ، وعلى أن مثله
يقلد في خطئه لهذا اشتدوا في إنكار الخطأ لكي لا ينسب لأهل الحديث ، وقد هجر النبي
صلى الله عليه وسلم بعض أخيار أصحابه تأديباً
وأما قول الذهبي :” لو أننا كلما أخطأ إمام مجتهد في مسألة خطأً مغفوراً
له هجرناه وبدعناه، لما سلم أحد من الأئمة”
فهذا فيه مبالغة فعامة أئمة أهل السنة لم يؤثر عنهم الكلام في هذه المسائل
، ولم يصح عن البخاري أنه قال :” الإيمان مخلوق ” ، وإنما نسب ذلك إلى الإمام
البخاري القول باللفظ ، وقد روي عن البخاري التبرؤ من القول باللفظ
وعمدة من نسب له القول باللفظ ما روى ابن عساكر في تاريخه (52/ 92) : أخبرنا
أبو الحسن علي بن أحمد أنبأنا القاضي أبو المظفر هناد بن إبراهيم النسفي أنبأنا أبو
عبد الله محمد بن أحمد بن محمد البخاري حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد ابن حمدان بن غارم
الزندي وأبو عمرو أحمد بن عمر المقرئ قالا حدثنا أبو سعيد حاتم بن أحمد بن محمود الكندي
قال سمعت مسلم بن الحجاج يقول لما قدم محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور ما رأيت واليا
ولا عالما فعل به أهل نيسابور ما فعلوا بمحمد بن إسماعيل استقبلوه من مرحلتين وثلاث
مراحل وقال محمد بن يحيى الذهلي في مجلسه من اراد أن يستقبل محمد بن إسماعيل غدا فليستقبله
فإني استقبله فاستقبله محمد بن يحيى وعامة علماء أهل نيسابور فدخل البلد فنزل دار البخاريين
قال فقال لنا محمد بن يحيى لا تسألوه عن شيء من الكلام فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن فيه
وقع بيننا وبينه ثم شمت بنا كل حروري وكل رافضي وكل جهمي وكل مرجئ بخراسان قال فازدحم
الناس على محمد بن إسماعيل حتى امتلأ الدار والسطوح قال فلما كان يوم الثاني أو الثالث
قام إليه رجل فسأله عن اللفظ بالقرآن فقال أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا قال
فوقع بين الناس اختلاف فقال بعضهم قال لفظي بالقرآن مخلوق وقال بعضهم لم يقل فوقع بينهم
اختلاف حتى تواثب بعضهم إلى بعض فاجتمع أهل الدار فاخرجوا الناس من الدار .
وهذا السند فيه نظر ، فحاتم بن أحمد بن محمود الكندي ترجم له الذهبي في
وفيات 314 :” حرف الحاء – 151 – حاتم بن أحمد بن محمود بن عفان بن خازم.
أبو سعيد الكندي.
ذكره ابن ماكولا في خازم، بمعجمتين، فقال فيه: الكندي الصيرفي البخاري.
حدث عن: محمد بن يحيى الذهلي، وأحمد بن الأزهر، وأحمد بن حفص بن عبد الله،
وأحمد بن يوسف.
وعنه: أبو عمرو أحمد بن محمد المقرئ، ومكي بن إسحاق.
مات في سابع رمضان من السنة”
فمثله مجهول الحال ، فهل يجوز الاعتماد على مثله في نسبة هذا القول الخطير
للإمام البخاري ، وفي سند الخبر هناد بن إبراهيم النسفي
قال الذهبي في الميزان :” 9254 – هناد بن إبراهيم أبو المظفر النسفى.
روى الكثير بعد الخمسين وأربعمائة إلا أنه راوية للموضوعات والبلايا.
وقد تكلم فيه.
روى عن غنجار في تاريخه، وعن أبى عبد الرحمن السلمي، وأبي عمر الهاشمي،
وأبي الحسين بن بشران، والطبقة.
وآخر من حدث عنه القاضي أبو بكر الأنصاري، وأبو البدر الكرخي، لكن أبو
البدر لم يكن له أصل مما روى عنه.
مات ببعقوبا على قضائها سنة خمس وستين وأربعمائة”
أقول : فإذا كان هذا حاله فهل من الأمانة العلمية ، إيراد أخباره في كتب
التواريخ ، ونسبة المذاهب الردية للأئمة بأخباره مع حذف ذكره من السند
وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق (52/92) : أخبرنا أبو القاسم الخضر بن الحسين
بن عبدان أنبأنا علي بن محمد المصيصي أنبأنا عبد الله بن أحمد بن الحسن النيسابوري
حدثنا أبو العباس أحمد بن الحسن الرازي حدثنا أبو أحمد بن عدي قال ذكر لي جماعة من
المشايخ أن محمد بن إسماعيل لما ورد نيسابور اجتمع الناس عليه وعقد له المجلس حسده
من كان في ذلك الوقت من مشايخ نيسابور لما رأى إقبال الناس إليه وأجتماعهم فقال لأصحاب
الحديث إن محمد بن إسماعيل يقول اللفظ بالقرآن مخلوق فامتحنوه به في المجلس فلما حضر
الناس مجلس البخاري قام إليه رجل فقال يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن مخلوق
أو غير مخلوق فأعرض عنه البخاري ولم يجبه فقال الرجل يا أبا عبد الله وأعاد عليه القول
فأعرض عنه ولم يجبه ثم قال في الثالثة فالتفت إليه محمد بن إسماعيل قال القرآن كلام
الله غير مخلوق وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة فشغب الرجل وشغب الناس وتفرقوا
عنه وقعد البخاري في منزله
فهذه الرواية أنسب لمذهب البخاري الوارد في كتابه خلق أفعال العباد ، وتأمل
كيف أنه لم يطلق باللفظ لا نفياً ولا إثباتاً ، وإنما تكلم عن القرآن والأفعال فقط
!
وقال الخطيب في تاريخه (2/340) : أَخْبَرَنَا أحمد بن محمد بن غالب، قَالَ:
أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي، قَالَ: أخبرنا عبد الله بن محمد بن سيار، قَالَ: حَدَّثَنِي
محمد بن خشنام، وسمعته يقول: سئل محمد بن إسماعيل، بنيسابور عن اللفظ، فقال: حَدَّثَنِي
عبيد الله بن سعيد، يعني أبا قدامة، عن يحيى بن سعيد، قَالَ: أعمال العباد كلها مخلوقة.
فمرقوا عليه، قَالَ: فقالوا له بعد ذلك، ترجع عن هذا القول حتى يعودوا
إليك؟
قَالَ: لا أفعل إلا أن تجيئوا
بحجة فيما تقولون أقوى من حجتي.
وأعجبني من محمد بن إسماعيل ثباته.
أقول : فهذا الخبر صريح في أن البخاري لم يقل ( لفظي بالقرآن مخلوق ) اللفظ
الموهم الذي ذمه أحمد ، وإنما قال ( أفعال العباد مخلوقة ) ، مع تصريحه مراراً وتكراراً
بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كما في كتابه خلق أفعال العباد .
وسبب قول البخاري هذا أن رأى أن
بعضهم لما رأى أحمد ذم من يقول ( لفظي بالقرآن مخلوق ) ، قالوا ( لفظي بالقرآن غير
مخلوق ) ، فأوهموا أن أفعال العباد غير مخلوقة
ولهذا حقق شيخ الإسلام أن نسبة قول اللفظية للبخاري فرية فقال كما في مجموع
الفتاوى ( 12/ 364) :” وَكَذَلِكَ أَيْضًا افْتَرَى بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الْبُخَارِيِّ
الْإِمَامِ صَاحِبِ ” الصَّحِيحِ ” أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ
مَخْلُوقٌ وَجَعَلُوهُ مِنْ اللَّفْظِيَّةِ
.
حَتَّى وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
أَصْحَابِهِ : مِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذهلي وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ
وَغَيْرِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ .
وَكَانَ فِي الْقَضِيَّةِ أَهْوَاءٌ وَظُنُونٌ حَتَّى صَنَّفَ ” كِتَابَ
خَلْقِ الْأَفْعَالِ ” وَذَكَرَ فِيهِ مَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي قدامة عَنْ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ أَنَّهُ قَالَ : مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ
: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ .
وَذَكَرَ فِيهِ مَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ كِتَابِهِ
” الصَّحِيحِ ” مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ
وَأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَيُنَادِي بِصَوْتِ . وَسَاقَ فِي ذَلِكَ مِنْ
الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْآثَارِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ وَبَيَّنَ
الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي يُنَادِي اللَّهُ بِهِ وَبَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي
يُسْمَعُ مِنْ الْعِبَادِ وَأَنَّ الصَّوْتَ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ لَيْسَ
هُوَ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقَارِئِ وَبَيَّنَ دَلَائِلَ ذَلِكَ وَأَنَّ أَفْعَالَ
الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ مَخْلُوقَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلِهِ وَكَلَامِهِ
غَيْرُ مَخْلُوقٍ “
وفي هذا عبرة لمن يزعم أن البخاري وشيخ الإسلام لهما مذهب في ( اللفظ
) غير مذهب أحمد ، وينسبون للبخاري أنه قال ( لفظ ) و ( ملفوظ ) وهذا كذب ، وهذا التحقيق
من شيخ الإسلام يبدو أنه من أواخر ما كتب في المسألة
فإن قلت ما الفرق بين ( أفعال العباد مخلوقة ) و ( لفظي بالقرآن مخلوق
)
فيقال : قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (6/ 527) :”
” وَالْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَنَحْوِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ
مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّفْظَ بِالْقُرْآنِ وَالتِّلَاوَةَ مَخْلُوقَةٌ فَهُوَ جهمي
وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ؛ لِأَنَّ ” اللَّفْظَ
وَالتِّلَاوَةَ ” يُرَادُ بِهِ الْمَلْفُوظُ الْمَتْلُوُّ . وَذَلِكَ هُوَ كَلَامُ
اللَّهِ فَمَنْ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مَخْلُوقًا
فَهُوَ جهمي . وَيُرَادُ بِذَلِكَ ” الْمَصْدَرُ وَصِفَاتُ الْعِبَادِ “
فَمَنْ جَعَلَ ” أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ
” فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ”
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (12/ 209) :” ؛ وَلَكِنَّ
أَهْلَ خُرَاسَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِأَقْوَالِ أَحْمَد مَا لِأَهْلِ
الْعِرَاقِ الَّذِينَ هُمْ أَخَصُّ بِهِ .
وَأَعْظَمُ مَا وَقَعَتْ فِتْنَةُ
” اللَّفْظِ ” بِخُرَاسَانَ وَتَعَصَّبَ فِيهَا عَلَى الْبُخَارِيِّ – مَعَ
جَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ – وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ قَامُوا عَلَيْهِ أَيْضًا أَئِمَّةٌ
أَجِلَّاءٌ فَالْبُخَارِيُّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – مِنْ أَجَلِّ النَّاسِ . وَإِذَا
حَسُنَ قَصْدُهُمْ وَاجْتَهَدَ هُوَ وَهْم أَثَابَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ عَلَى حُسْنِ
الْقَصْدِ وَالِاجْتِهَادِ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ
أَوْ مِنْهُمْ بَعْضُ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ فَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ كُلِّهِمْ
.
لَكِنَّ مِنْ الْجُهَّالِ مَنْ
لَا يَدْرِي كَيْفَ وَقَعَتْ الْأُمُورُ حَتَّى رَأَيْت بِخَطِّ بَعْضَ الشُّيُوخِ
الَّذِينَ لَهُمْ عِلْمٌ وَدِينٌ يَقُولُ : مَاتَ الْبُخَارِيُّ بِقَرْيَةِ خرتنك فَأَرْسَلَ
أَحْمَد إلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ يَأْمُرُهُمْ أَنْ لَا يُصَلُّوا عَلَيْهِ لِأَجْلِ
قَوْلِهِ فِي ” مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ ” وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْكَذِبِ
عَلَى أَحْمَد وَالْبُخَارِيِّ وَكَاذِبُهُ جَاهِلٌ بِحَالِهِمَا .
فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ – رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ – تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ بَعْدَ مَوْتِ أَحْمَد بخمسة
عَشَرَ سَنَةً فَإِنَّ أَحْمَد تُوَفِّي سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَكَانَ أَحْمَد
مُكْرِمًا لِلْبُخَارِيِّ مُعَظِّمًا . وَأَمَّا تَعْظِيمُ الْبُخَارِيِّ وَأَمْثَالِهِ
لَأَحْمَدَ فَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ . وَالْبُخَارِيُّ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ
فِي ” خَلْقِ الْأَفْعَالِ ” أَنَّ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ لَا تَفْهَمُ
كَلَامَ أَحْمَد “
فتأمل أدب شيخ الإسلام مع الذين أنكروا على البخاري حيث قال :” وَإِنْ
كَانَ الَّذِينَ قَامُوا عَلَيْهِ أَيْضًا أَئِمَّةٌ أَجِلَّاءٌ “
وقوله (وَإِذَا حَسُنَ قَصْدُهُمْ وَاجْتَهَدَ هُوَ وَهْم أَثَابَهُ اللَّهُ
وَإِيَّاهُمْ عَلَى حُسْنِ الْقَصْدِ وَالِاجْتِهَادِ ) ، وقارنه مع طريقة الذهبي في
معالجة الأمر
وقال البخاري في خلق أفعال العباد (2/119) :” 227- : وَكُلُّ مَنْ
لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِكَلاَمِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَإِنَّهُ
يُعْلَمُ ، وَيُرَدُّ جَهْلُهُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَمَنْ أَبَى بَعْدَ
الْعِلْمِ بِهِ ، كَانَ مُعَانِدًا ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}
، وَلِقَوْلِهِ : {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ : فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الْفَرِيقَانِ
لِمَذْهَبِ أَحْمَدَ وَيَدَّعِيهِ كُلٌّ لِنَفْسِهِ ، فَلَيْسَ بِثَابِتٍ كَثِيرٌ مِنْ
أَخْبَارِهِمْ ، وَرُبَّمَا لَمْ يَفْهَمُوا دِقَّةَ مَذْهَبِهِ.
بَلِ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَحْمَدَ وَأَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ كَلاَمَ اللهِ
غَيْرُ مَخْلُوقٍ ، وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ ، وَأَنَّهُمْ كَرِهُوا الْبَحْثَ وَالتَّنْقِيبَ
عَنِ الأَشْيَاءِ الْغَامِضَةِ ، وَتَجَنَّبُوا أَهْلَ الْكَلاَمِ ، وَالْخَوْضَ وَالتَّنَازُعَ
إِلاَّ فِيمَا جَاءَ فِيهِ الْعِلْمُ ، وَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ”
فهنا البخاري ينقل مذهب أحمد ويقره ، فأين الخلاف ؟
وأين تصريحه باللفظ بل ينقل عن
أحمد أنه كره التنقيب في الأمور الغامضة ولا شك أن ( اللفظ منها ) ، ولا أحسب القول
بأن ( الإيمان مخلوق ) يثبت عن إسحاق بن راهوية إذ لو ثبت لكثرت عنه في ذلك الروايات
ولكان محل بحث ومناظرة بين الكثيرين .
ولو صح عنه فتلك زلة عالم لا يقلد
فيها .
أو كانت قبل ظهور فتنة الجهمية
وتسترتهم تحت مثل هذه الاجمالات بعد أن فضحهم علماء أهل السنة ، وإلا فإسحاق ابن راهوية
صح عنه تبديع اللفظية من طرق كما ذكره ابن أبي حاتم في الرد على الجهيمة ونقله عنه
اللالكائي في السنة
والذهبي له زلات في سير أعلام النبلاء لا يجوز أن يتابع عليها
فقد قال في السير (15/ 577) :” 349 – ابْنُ أَبِي دَارِمٍ أَبُو بَكْرٍ
أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ الشِّيْعِيُّ *
الإِمَامُ، الحَافِظُ، الفَاضِلُ، أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ
السَّرِيِّ بنِ يَحْيَى بنِ السَّرِيِّ بنِ أَبِي دَارمٍ التَّمِيْمِيُّ، الكُوْفِيّ،
الشِّيْعِيّ، مُحدِّث الكُوْفَة.
سَمِعَ: إِبْرَاهِيْمَ بنَ عَبْدِ اللهِ العَبْسِي القَصَّار، وَأَحْمَدَ
بنَ مُوْسَى الحمَّار، وَمُوْسَى بنَ هَارُوْنَ، وَمُحَمَّد بنَ عَبْدِ اللهِ مُطيَّناً،
وَمُحَمَّدَ بنَ عُثْمَانَ بنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَعِدَّة.
حَدَّثَ عَنْهُ: الحَاكِمُ، وَأَبُو بَكْرٍ بنَ مَرْدُوَيْه، وَيَحْيَى
بنُ إِبْرَاهِيْمَ المُزَكِّي، وَأَبُو الحَسَنِ بنُ الحَمَّامِي، وَالقَاضِي أَبُو
بَكْرٍ الحِيْرِيُّ، وَآخَرُوْنَ.
كَانَ مَوْصُوَفاً بِالحِفْظِ وَالمعرفَةِ إِلاَّ أَنَّهُ يترفَّض، قَدْ
أَلَّفَ فِي الحطِّ عَلَى بَعْض الصَّحَابَة، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِثِقَةٍ فِي
النَّقْل”
أقول : وعادة السلف أنهم يكرهون الرواية عن الدعاة إلى البدعة ، خصوصاً
الروافض منهم ، فضلاً عن الترجمة لهم والثناء عليهم بالفضل فكيف يكون فاضلاً وهو يسب
الصحابة ؟!
وقد قال في سير أعلام النبلاء (7/ 142) :” قَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ:
بَلَغَ ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّ مَالِكاً لَمْ يَأْخُذْ بِحَدِيْثِ: (البَيِّعَانِ
بِالخِيَارِ) .
فَقَالَ: يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ أَوْرَعُ وَأَقْوَلُ بِالحَقِّ مِنْ مَالِكٍ.
قُلْتُ: لَوْ كَانَ وَرِعاً كَمَا يَنْبَغِي، لَمَا قَالَ هَذَا الكَلاَمَ
القَبِيْحَ فِي حَقِّ إِمَامٍ عظيم “
أقول : سبحان الله الذهبي أعرف بالورع من الإمام أحمد ، ومع ذلك يصف رافضياً
سباباً بالفضل ، ويقال له ( لو كان فاضلاً لما سب الصحابة ) ، وابن أبي ذئب وإن لم
يوافق على كلمته إلى أن سبب قوله لها الغيرة على السنة ، لذا أثنى عليه أحمد في هذا
المقام ، ومالك قرينة لا ينظر له كما تنظر أنت إليه
وقال في السير (17/ 588) :” 394 – المُرْتَضى عَلِيُّ بنُ حُسَيْنِ
بنِ مُوْسَى القُرَشِيُّ *
العَلاَّمَةُ، الشَّرِيْفُ، المُرْتَضَى، نَقِيْبُ العَلَوِيَّة، أَبُو
طَالِبٍ عَلِيُّ بنُ حُسَيْنِ بن مُوْسَى القُرَشِيُّ، العَلَوِيُّ، الحُسَيْنِيُّ،
المُوْسَوِيُّ، البَغْدَادِيُّ، مِنْ وَلد مُوْسَى الكَاظِم”
ثم قال :” وَكَانَ مِنَ الأَذكيَاء الأَوْلِيَاء، المُتَبَحِّرين
فِي الكَلاَم وَالاعتزَالِ، وَالأَدبِ وَالشِّعْرِ، لَكِنَّهُ إِمَامِيٌّ جَلْدٌ –
نَسْأَلُ اللهَ الْعَفو –”
أقول : كيف يكون ولياً وهو إمامي معتزلي جلد ، وهل كان من هدي السلف الثناء
على مكفرة الصحابة بهذا ؟
سبحان الله سباب الصحابة ولي
وابن أبي ذئب ليس ورعاً كما ينبغي !
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (28/ 205) :” وهذا حقيقة قول
من قال من السلف والأئمة : إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم، ولا يصلي خلفهم، ولا
يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون . فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا؛ ولهذا يفرقون بين الداعية
وغير الداعية؛ لأن الداعية أظهر المنكرات، فاستحق العقوبة، بخلاف الكاتم”
أقول : فكيف يترجم لهم ويثنى عليهم ، وتعد محاسنهم
قال ابن رجب في شرح علل الترمذي :” قال المروزي : (( مضيت إلى الكرابيسي
وهو إذ ذاك مستور يذب عن السنة ويظهر أبي عبد الله ، فقلت له : إن كتاب المدلسين يريدون
أن يعرضوه على أبي عبد الله ، فأظهر أنك قد ندمت حتى أخبر أبا عبد الله . فقال لي
: (( عن أبا عبد الله رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق ، وقد رضيت أن يعرض كتابي عليه
، وقال : قد سألني أبو ثور وابن عقيل وحبيش أن أضرب على هذا الكتاب فأبيت عليهم وقلت
بل أزيد فيه ، ولج في ذلك وأبى أن يرجع عنه .
فجئ بالكتاب إلى أبي عبد الله وهو لا يدري من وضع الكتاب ، وكان في الكتاب
الطعن على الأعمش والنصرة للحسن بن صالح .
وكان في الكتاب : (( إن قلت إن الحسن بن صالح كان يرى رأي الخوارج فهذا
ابن الزبير قد خرج))
فلما قرئ على أبي عبد الله قال : (( هذا قد جمع للمخالفين مالم يحسنوا
أن يحتجوا به ، حذروا عن هذا )) ونهى عنه .
وقد تسلط بهذا الكتاب طوائف من أهل البدع من المعتزلة وغيرهم في الطعن
على أهل الحديث”
أقول : فكيف لو رأوا قول الذهبي في سير أعلام النبلاء عن
معاوية (3/133) :” وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خَيْراً مِنْهُ بِكَثِيْرٍ، وَأَفْضَلَ، وَأَصْلَحَ،
فَهَذَا الرَّجُلُ سَادَ وَسَاسَ العَالَمَ بِكَمَالِ عَقْلِهِ، وَفَرْطِ حِلْمِهِ،
وَسَعَةِ نَفْسِهِ، وَقُوَّةِ دَهَائِهِ وَرَأْيِهِ. وَلَهُ هَنَاتٌ وَأُمُوْرٌ، وَاللهُ
المَوْعِدُ”
والواجب حفظ اللسان تجاه الصحابة
وقال الذهبي أيضاً في السير في مجلد الخلفاء الراشدين ص184 :” قال
إسماعيل بن أبي خالد: لما نزل أهل مصر الجحفة، وأتوا يعاتبون عثمان صعد عثمان المنبر
فقال: جزاكم الله يا أصحاب محمد عني شرا: أذعتم السيئة وكتمتم الحسنة، وأغريتم بي سفهاء
الناس، أيكم يذهب غلى هؤلاء القوم فيسألهم ما نقموا وما يريدون؟ قال ذلك ثلاثا ولا
يجيبه أحد. فقام علي فقال: أنا. فقال عثمان: أنت أقربهم رحما فأتاهم فرحبوا به، فقال:
ما الذي نقمتم عليه؟ قالوا: نقمنا أنه محا كتاب الله -يعني كونه جمع الأمة على مصحف-
وحمى الحمى، واستعمل أقرباءه، وأعطى مروان مائة الفن وتناول أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: فرد عليهم عثمان: أما القرآن فمن عند الله، إنما نهيتكم عن الاختلاف
فاقرؤوا على أي حرف شئتم، وأما الحمى فوالله ما حميته لإبلي ولا لغنمي، وإنما حميته
لإبل الصدقة. وأما قولكم: إني أعطيت مروان مائة ألف، فهذا بيت مالهم فليستعملوا عليه
من أحبوا وأما قولكم: تناول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنما أنا بشر أغضب
وأرضى، فمن ادعى قبلي حقا أو مظلمة فها أنا ذا، فإن شاء قودا وإن شاء عفوا. فرضي الناس
واصطلحوا ودخلوا المدينة”
أقول : وهذه الرواية منقطعة ، وفي سندها جهالة وهي عند ابن أبي داود في
المصاحف ، فما داعي إيرادها والحال هذا .
وفي إيراد إيغار لصدور العامة
ممن لا يميز بين الصحيح والسقيم على الصحابة .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
لمعاذ :” لا تبشرهم فيتكلوا ” ، فنهاه عن الإخبار بأمرٍ شرعي ثابت لما كانت
المصلحة في كتمانه ن فلم تورد مثل الروايات في مثل هذا المقام ، وإذا لم يظهر النقد
وعلم الحديث في مثل هذا المقام وتجاه مثل هذه الروايات فمتى يظهر ؟!
وإليك نموذجاً من تراجم السلف لأهل البدع
قال العجلي في ثقاته :” 159 – بشر المريسي حَدثنَا أَبُو مُسلم حَدثنِي
أبي قَالَ رَأَيْت بشر المريسي عَلَيْهِ لعنة الله مرّة وَاحِدَة شيخ قصير دميم المنظر
وسخ الثِّيَاب وافر الشّعْر أشبه شَيْء باليهود وَكَانَ أَبوهُ يَهُودِيّا صباغا بِالْكُوفَةِ
فِي سوق المراضع ثمَّ قَالَ لايرحمه الله فَلَقَد كَانَ فَاسِقًا”
وبهذا انتهت الترجمة .
وأما الذهبي فقال في ترجمته في
سير أعلام النبلاء (10/199) :” المَرِيْسِيُّ بِشْرُ بنُ غِيَاثِ بنِ أَبِي كَرِيْمَةَ
العَدَوِيُّ **
المُتَكَلِّمُ، المُنَاظِرُ، البَارِعُ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِشْرُ
بنُ غِيَاثِ بنِ أَبِي كَرِيْمَةَ العَدَوِيُّ مَوْلاَهُمُ، البَغْدَادِيُّ، المَرِيْسِيُّ،
مِنْ مَوَالِي آلِ زَيْدِ بنِ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
كَانَ بِشْرٌ مِنْ كِبَارِ الفُقَهَاءِ.
أَخَذَ عَنِ: القَاضِي أَبِي يُوْسُفَ”
ثم ذكر كلام أهل السنة في ذمه ، وكلام أهل البدعة في مدحه ثم قال
:” وَمَنْ كُفِّرَ بِبِدْعَةٍ – وَإِنْ جَلَّتْ – لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الكَافِرِ
الأَصْلِيِّ، وَلاَ اليَهُوْدِيِّ، وَالمَجُوْسِيِّ، أَبَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ مَنْ
آمَنَ بِاللهِ وَرَسُوْلِهِ، وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَصَامَ، وَصَلَّى، وَحَجَّ، وَزَكَّى
– وَإِنِ ارْتَكَبَ العَظَائِمَ، وضَلَّ، وَابِتَدَعَ – كَمَنْ عَانَدَ الرَّسُوْلَ،
وَعَبَدَ الوَثَنَ، وَنَبَذَ الشَّرَائِعَ، وَكَفَرَ، وَلَكِنْ نَبْرَأُ إِلَى اللهِ
مِنَ البِدَعِ وَأَهْلِهَا”
أقول : ولا أدري ما داعي هذا الكلام ، والكافر المرتد أشد من الكافر الأصلي
بدليل أن الكافر الأصلي يقر على دينه في حالات بيد أن الكافر المرتد الذي كفر ببدعة
أو غيرها ، لا يقر أبداً على كفره بل حده القتل
ثم إن الذي يبتدع بدعةً مكفرةً ثم ينسبها إلى الدين ، أخطر بكثير ممن يظهر
الكفر والتبرؤ من الإسلام فهذا لا خوف على أهل الملة منه
والخلاصة أن الذهبي له زلات وهنات لا يوافق عليها ، ولا ينبغي أن يتابع
عليها بجاه تلمذته على شيخ الإسلام فهو نفسه خالف شيخ الإسلام في مسألة شد الرحال ،
والدعاء عند قبور الصالحين
ولهذا قال الشيخ عبد العزيز ابن باز كما في شريط الدمعة البازية آخر الوجه
الثاني :” الذهبي ليس من أهل الفقه ، ما هو من أهل البصيرة ، الذهبي عالم من علماء
الوسط ، يعتني بمصطلح الحديث فقط ، لا يعتمد به في الشريعة “
أقول : بل له الرجل جهادٌ محمود في نصرة العقيدة السلفية في بعض المسائل كما كتابه ( العلو
) و ( العرش ) و ( إثبات صفة اليد ) و ( الأربعين في صفات رب العالمين ) ، ومواطن من
تاريخ الإسلام والسير والتذكرة ، لكن اشتغاله بالتاريخ أخذه عن كثير من علوم الشريعة
التي تجدها عند شيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ، ومع ذلك فهو مشارك في شتى العلوم،
وأما في الحديث فكان الرجل محققاً ، ولكن الحق أحق أن يتبع
ولهذا صنف ابن عبد الهادي الحنبلي تلميذ شيخ الإسلام كتاباً أسماه (ما
أخذ على تصانيف أبي عبد اللّه الذهبي الحافظ) ، ذكره ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة
، ولم أقف عليه مطبوعاً ولا مخطوطاً
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم