هل يلزم الوالد المقتدر مادياً تزويج ولده؟

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

من الأفكار المسلم بها سلفاً عند الكثير من الناس في زماننا أنه لا يلزم الأب تزويج ابنه الذكر وأنه لو فعل ذلك فهو تفضل، ومع انتشار أفكار تأخير الزواج عن البلوغ واعتباره مسلمة من المسلمات تأكدت هذه الفكرة فكان على دعاة الزواج عند البلوغ أن يتعاملوا مع هذا الملف لأن الزواج الذي يسمونه مبكراً يكون بإعانة من الأب على الأغلب.

وقد وقفت قبل مدة وجيزة على رسالة دكتوراة بعنوان (المواثيق الدولية وأثرها في هدم الأسرة)، للدكتورة كاميليا حلمي محمد، وقد تكلمت من الصحيفة 70 من رسالتها فما بعدها عن مخططات القوم في صرف الشباب عن الزواج وتسهيل الزنا بكلام دقيق وشامل فتحسن مراجعته.

غير أنه بعيداً عن فكرة الزواج المبكر نحن اليوم أمام حالات (متطرفة) في التعبير الحديث فيكون الابن طالباً في جامعة مرموقة وهو في الغالب سيتوظف بعد إنهاء الدراسة ويكون محتاجاً للزواج خصوصاً إن كان هناك اختلاط ( مع كون حكم الاختلاط معروفاً ) والأهل قادرون على تزويجه ويمتنعون

وهناك من تخرج وتوظف ويتركونه يجمع عامة تكاليف الزواج بنفسه وإنما يعينونه ببعضها أو لا يعينون بشيء ذي بال مع مقدرتهم

وهذا من الأمور التي انفرد بها الجيل الحديث من دون بقية أجيال المسلمين على مر التاريخ ، وعامتهم لا يدري أنه (قد ) يأثم بذلك خصوصاً في زمن الفتن وانتشار الشر

وقد قلت لبعضهم من باب ضرب المثل ( لو كان لك ابن أعمى أو معاق وهو وحيدك ووجدت من تقبل به زوجاً هل ستزوجه لا شك أنك ستزوجه مع أنك ستنفق عليه وعلى أحفاده وقد قال الله تعالى : {نحن نرزقكم وإياهم }[الأنعام] وقال تعالى {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله }[النور]

وقديما كانوا يزوجون رقيقهم وهم ملزمون بسكنهم وطعامهم وملبسهم وعلاجهم فما بالك بمن هو أحسن حالاً بمراحل وكما قال بعض السلف : تزوج فإن الذي يرزقها في بيتها يزرقها في بيتك

وهنا سأذكر مجموعة من آثار السلف في الباب

قال الإمام سفيان : حق الولد على الوالد : أن يحسن اسمه , وأن يزوجه إذا بلغ ,وأن يحسن أدبه [ البر والصلة لابن المبارك 155 ]
[ هذه وصية جليلة والمشهور تذكير الأبناء بحقوق الآباء لكن من فقه هذا الإمام تفطن لهذا الأمر ونبه عليه
قال عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما : إن الوالد مسئول عن الولد والولد مسئول عن الوالد – يعني في الأدب والبر- ( المخلصيات 2998 ) , يعني الوالد مسؤول عن الولد في الأدب – وهو التربية – , والولد مسؤول عن بر والده ]

قال ابن قدامة في المغني :
فصل: قال أصحابنا:
وعلى الأب إعفاف ابنه إذا كانت عليه، نفقته، وكان محتاجا إلى إعفافه. وهو قول بعض أصحاب الشافعي. وقال بعضهم: لا يجب ذلك عليه.ولنا، أنه من عمودي نسبه، وتلزمه نفقته، فيلزمه إعفافه عند حاجته إليه، لأن أحمد قد نص في العبد: يلزمه أن يزوجه إذا طلب ذلك، وإلا بيع عليه. وكل من لزمه إعفافه لزمته نفقة زوجته؛ لأنه لا يتمكن من الإعفاف إلا بذلك. وقد روي عن أحمد، أنه لا يلزم الأب نفقة زوجة الابن. وهذا محمول على أن الابن كان يجد نفقتها.

قال ابن أبي الدنيا في كتاب العيال 171 – حدثنا أحمد بن جميل، أخبرنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا سفيان، قال: ” كان يقال: حق الولد على والده أن يحسن اسمه وأن يزوجه إذا بلغ وأن يحججه وأن يحسن أدبه “
172 – وبه أخبرنا ابن المبارك، حدثنا محمد بن سليم، عن قتادة، قال: كان يقال: «إذا بلغ الغلام فلم يزوجه أبوه فأصاب فاحشة، أثم الأب»
173 – حدثني الفضل بن إسحاق، حدثنا أبو قتيبة، عن شداد بن طلحة، عن معاوية بن قرة، أن ابن عباس، قال: «من رزقه الله ولدا فليحسن اسمه وتأديبه فإذا بلغ فليزوجه»
174 – حدثني الحسين بن محمد السعدي، حدثنا عمر بن أبي خليفة، حدثنا عبد الله بن أبي حسين المكي، قال: ” كانوا إذا أدرك لهم ابن عرضوا عليه النكاح , فإن قبله وإلا أعطوه ما ينكح به وقالوا: أنت أعلم بأربك

وقال ابن أبي شيبة في المصنف 30330 – حدثنا عبد الله بن نمير، قال: حدثنا فضيل بن غزوان، قال: حدثنا عثمان بن أبي صفية الأنصاري، قال: قال عبد الله بن عباس لغلام من غلمانه: «ألا أزوجك؟، فما من عبد يزني إلا نزع الله منه نور الإيمان»

وهذا من الخير الذي نالته الأجيال السابقة وحُرِمَته الأجيال التي تزعم أنها تقدمت عن سلفها أنهم كانوا يتزوجون في الغالب إذا بلغوا أو قريباً من ذلك مع قلة الفتن، لذا يرجى للصابر في زماننا الأجر المضاعف ولا مبرر أبداً للعلاقات المحرمة أو إدمان الإباحية أو غيرها مما يفعله بعض الشباب ويتعلل بتعسير الزواج ففاعل هذا كالمستجير من الرمضاء بالنار.

قال ابن قدامة في المغني :” (6571) مسألة: قال: (وأن يزوج المملوك إذا احتاج إلى ذلك) وجملة ذلك أنه يجب على السيد إعفاف مملوكه، إذا طلب ذلك. وهو أحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة، ومالك: لا يجبر عليه؛ لأن فيه ضررا عليه، وليس مما تقوم به البنية، فلم يجبر عليه، كإطعام الحلواء. ولنا قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} [النور: 32] . والأمر يقتضي الوجوب، ولا يجب إلا عند الطلب.
وروى عكرمة، عن ابن عباس، قال: من كانت له جارية، فلم يزوجها، ولم يصبها، أو عبد فلم يزوجه، فما صنعا من شيء كان على السيد. ولولا وجوب إعفافهما لما لحق السيد الإثم بفعلهما، ولأنه مكلف، محجور عليه، دعا إلى تزويجه،
فلزمته إجابته، كالمحجور عليه للسفه، ولأن النكاح مما تدعو إليه الحاجة غالبا، ويتضرر بفواته، فأجبر عليه، كالنفقة، بخلاف الحلواء. إذا ثبت هذا، فالسيد مخير بين تزويجه، أو تمليكه أمة يتسراها. وله أن يزوجه أمته؛ لأن نكاح الأمة مباح للعبد من غير شرط. ولا يجب عليه تزويجه إلا عند طلبه؛ لأن هذا مما يختلف الناس فيه، وفي الحاجة إليه، ولا تعلم حاجته إلا بطلبه

تأمل قول ابن قدامة ( كالمحجور عليه للسفه ) قاله ابن قدامة لأن عامة المذاهب يقولون المحجور عليه للسفه إذا طلب الزواج وجب تزويجه على الحاجر عليه فقاسوا العبد عليه فما بالك بإنسان عاقل وليس سفيهاً وهو قادر على الاكتساب وأنت والده وتقدر على إعفافه ؟

وللمعلومية الفقهاء الذين يقولون بأن العبد لا يزوج أو المحجور عليه للسفه إذا كان كثير الطلاق لا يزوج وضعوا حلاً آخر لإعفافه وهو أن يسرى بجارية ( وهذا الحل لا حضور له اليوم مع ذهاب الجواري )

بل كثير من الفقهاء ذهبوا إلى أن الأب إذا طلب من أبنائه تزويجه وكانوا ملزمين بنفقته أنهم لا بد أن يزوجوه.