هل يفلت المتكلمون من اتهاماتهم للباطنية؟
اطلعت قبل أيام على رسالة دكتوراه في الفلسفة الإسلامية للباحث الاندونيسي “كمال الدين نور مرجوني” في جهود الزيدية في الرد على الباطنية.
والباطنية هم فئة من الزنادقة، تعريفهم المختصر أنهم يظهرون الإسلام وفي واقعهم هم إباحية لا يؤمنون بدين كما قيل: “ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض”.
وأشبه الناس بهم في زماننا أمثال محمد شحرور، والزيدية فرقة من الشيعة عامتهم متأخريهم على مذهب المعتزلة في الصفات، فهم من أهل الكلام.
وقد لفت نظري أنهم في نقدهم للباطنية يقولون كلاماً نحواً مما يقوله أهل الحديث لهم إذا ردوا عليهم، فمن ذلك زعم متكلمي الزيدية أن الباطنية بتأويلاتهم البعيدة أرادوا إبطال النصوص والاحتيال على الكفر بها، فتأويلاتهم مجرد حيلة يسترون بها كفرهم بالوحي.
قال يحيى بن حمزة الزيدي في مشكاة الأنوار عن الباطنية ص48: “إنهم لما عجزوا عن صرف الخلق عن التصديق بالقرآن الكريم والسنة وأعياهم الأمر في إبطال حكم الشريعة، وهدم قواعد الملة وتعفية آثارها، عمدوا إلى صرفهم عن المراد بظواهر هذه الأمور إلى مخاريق زخرفوها، وتهويسات من تلقاء أنفسهم لفقوها ليستفيدوا بما اقترفوه من أنفسهم إبطال الشريعة، وبما اختلقوه وزخرفوه من التأويلات انقاد أكثر الخلق إلى متابعتهم وموالاتهم“.
أقول: ولعل من أسباب افتتان الخلق الذي أشار إليه يحيى بن حمزة أن سمعة التأويلات جيدة عند الناس بسبب كلام أهل الكلام، وهنا نتذكر كلمة ابن تيمية (وفتحتم الباب لكل مبطل).
قال أبو القاسم بن منده الحنبلي: “التأويل عند أصحاب الحديث نوع من التكذيب”.
ويشبه قوله هذا قول ابن خزيمة في تأويل صفة اليد أنه تبديل لا تأويل.
والمشترك بين كلام الباطنية وكلام الجهمية أن كلا الفريقين يصرف اللفظ عن ظاهره استثقالاً للظاهر، واعتقاداً لاستحالته أو ثقله على النفوس، لا من باب الجمع بين النصوص أو مراعاة السياق فإن ذلك لا يدل على مقصودهم، لهذا قال ابن خزيمة أنه تبديل.
وقد أشار كاتب الرسالة أنه وجد في كتب الشيعة تأويلات باطنية، وضيق صدور عامة الإمامية بظواهر القرآن واضح، فمن قائل بالتحريف ومن قائل بالتفاسير الباطنية.
وأما الاتهام الثاني من متكلمي الزيدية للباطنية (وهو اتهامهم جميعاً) أن مسلكهم في التنزيه هو إلحاد ونفي لوجود الله باسم التنزيه.
قال أحمد بن سليمان الزيدي في كتابه حقائق المعرفة في علم الكلام ص170: “وغرضهم -أي الباطنية- بهذا القول التوصل – إلى هذا الكفر وإذا لم يكن موجوداً فهو معدوم لأنه لا منزلة ثالثة تعلم“.
أقول: وقد نبه ابن تيمية على هذا المعنى زاعماً أن تأويلات المتكلمين فتحت الباب للباطنية، حيث قال في شرح حديث النزول: “ومن هنا دخلت الملاحدة الباطنية على المسلمين، حتى ردوا عن الإسلام خلقًا عظيمًا صاروا يقولون لمن نفي شيئًا عن الرب -مثل من ينفي بعض الصفات، أو جميعها أو الأسماء الحسنى- : ألم تنف هذا لئلا يلزم التشبيه والتجسيم؟! فيقول: بلي! فيقول: وهذا اللازم يلزمك فيما أثبته، فيحتاج أن يوافقهم على النفي شيئًا بعد شيء حتى ينتهي أمره إلى ألا يعرف الله بقلبه، ولا يذكره بلسانه، ولا يعبده، ولا يدعوه وإن كان لا يجزم بعدمه، بل يعطل نفسه عن الإيمان به، وقد عرف تناقض هؤلاء“.
والمتكلمون يدافعون عن أنفسهم بأنهم ما وصلوا إلى هذا الحد وأن هناك فرقاً غير أن الواقع أن العامي إذا سمع (لا داخل العالم ولا خارجه) سيفهم العدمية كما يفهمه من كلام القرامطة أو يقترب من ذلك، ولهذا أوصى عدد من علماء الأشعرية بإبعاد العوام عن دراسة عن علم الكلام أو التفصيل في العقائد، هذا مع زعمهم أن علمهم جاء لإنقاذ الناس من الإلحاد، فكيف يكون كذلك وبقاء الإنسان بعيداً عنه أسلم لقلبه من الشبهات، وهم يقولون إذا عرضت له الشبهات يدرس علم الكلام ليزيلها، والواقع أنها تزداد به، فتجدهم يأتون إلى المعنى العظيم مثل وجود الله ثم يقيمونه على مقدمات ضعيفة مثل الإيمان بـ(الجوهر الفرد) فإذا أوردت إيردات قوية على هذا المعطى تزعزع أساس إيمانه، وهذا جزاء من طلب الهدى بغير الوحي، ففي الوحي البراهين العقلية الكافية، وهم يصورون للناس أن كل استدلال عقلي هو علم كلام وهذا باطل، وإلا لصار كل البشر علماء كلام إذ لا يخلو كلامهم في أي شيء من استدلال، وفي القرآن براهين كثيرة خوطب بها المكذبون من كل الطبقات، وأهل الكلام إن درسوا علمهم فإنما ينظرون فيه بعيداً عن النصوص، والنصوص عندهم إنما تذكر لتحريفها أو الاستئناس بها بعد نفي المعارضة العقلية.