فيذهب بعض أهل العلم المعاصرين إلى أنه يجوز قتل نساء المشركين إذا فعلوا
هم ذلك بالمسلمين من باب المقابلة .
ومن قواعد أهل السنة في التعامل
مع أقوال أهل العلم أنه كل يؤخذ من قوله ويرد مهما كان جليلاً إلا النبي صلى الله عليه
وسلم .
وأن دفع قول العالم الذي اجتهد
فيه لا يلزم منه الطعن فيه
وقد بحثت هذه المسألة فتلخص عندي أن الإجماع منعقد على أنه لا يجوز قتل
نساء المشركين إلا في حالتين
الأولى : كون المرأة مقاتلة
الثانية : حالة التبييت ( ويأتي بيانها )
وكل من سوى ذلك من الصور لا يجوز فيه قتل نساء المشركين إجماعاً بما في
ذلك لو قتلوا هم نساءنا
والتبييت هو غزو المشركين ليلاً وفي هذه الحال يصيب المقاتل النساء والذرية
عن غير قصد فهذه الصورة مأذون بها ، لأنها من باب ( ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
) وقتل النساء والذرية هنا ليس مقصوداً
قال الإمام مسلم في صحيحه 4570- [26-1745] وحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى
، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ
، قَالَ يَحْيَى : أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ
عُبَيْدِ اللهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ ، قَالَ :
سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الذَّرَارِيِّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
؟ يُبَيَّتُونَ فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ ، فَقَالَ : هُمْ مِنْهُمْ.
والصورة التي معنا وهي قتل نساء المشركين تعمداً وقصداً لقصد النكاية والمقابلة
لا تشبه هذه الصورة
قال الجصاص في أحكام القرآن (2/147) :” وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } فَإِنَّهُ أَمْرٌ
بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ إذَا أُظْفِرْنَا بِهِمْ ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي قِتَالِ سَائِرِ
الْمُشْرِكِينَ مَنْ قَاتَلَنَا مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلُنَا بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا
مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ
مَحْظُورٌ”
وقال ابن رشد في بداية المجتهد (1/307) :” لا خلاف بينهم في أنه لا
يجوز قتل صبيانهم ولا قتل نسائهم ما لم تقاتل المرأة والصبي، فإذا قاتلت المرأة استبيح
دمها”
ونقل ابن بطال أنه اتفق الجميع على المنع من القصد إلى قتل النساء والولدان.
قال ابن حزم في المحلى (7/ 295) :” فاقتلوا أولادهم وصغارهم ونساءهم
بهذا الاستدلال فهو بلا شك أغيظ لهم من قتل حيوانهم فقالوا: ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان فقلنا لهم: وهو عليه السلام نهى عن قتل الحيوان
الالمأكلة ولافرق، وانما أمرنا الله تعالى أن نغيظهم فيما لم ينه عنه لا بما حرم علينا
فعله”
أقول : وكذلك يقال أن معاقبتهم بمثل ما عاقبونا فيما لم ينه عنه
وقال ابن قدامة في المغني :” ( 7575 ) .
فَصْلٌ : وَيَجُوزُ تَبْيِيتُ الْكُفَّارِ ، وَهُوَ كَسْبُهُمْ لَيْلًا
، وَقَتْلُهُمْ وَهُمْ غَارُّونَ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا بَأْسَ بِالْبَيَاتِ ، وَهَلْ غَزْوُ الرُّومِ إلَّا
الْبَيَاتُ ، قَالَ : وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَ بَيَاتَ الْعَدُوِّ .
وَقَرَأَ عَلَيْهِ : سُفْيَانُ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ .
قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ
عَنْ الدِّيَارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، نُبَيِّتُهُمْ فَنُصِيبُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ
؟ فَقَالَ : ” هُمْ مِنْهُمْ ” .
فَقَالَ : إسْنَادٌ جَيِّدٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ .
قُلْنَا : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَمُّدِ لِقَتْلِهِمْ .
قَالَ أَحْمَدُ : أَمَّا أَنْ يَتَعَمَّدَ قَتْلَهُمْ ، فَلَا .
قَالَ : وَحَدِيثُ الصَّعْبِ بَعْدَ نَهْيِهِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ ؛
لِأَنَّ نَهْيَهُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ حِينَ بَعَثَ إلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ
.
وَعَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ ، يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى
التَّعَمُّدِ ، وَالْإِبَاحَةُ عَلَى مَا عَدَاهُ “
فمجموع كلام هؤلاء الفقهاء أن قتل النساء والذراري غير المقاتلين على وجه
التعمد لا يجوز بحال
وهذا محل إجماع
ومما يبطل القول بجواز قتل النساء بقصد النكاية أو المقابلة ، أنه قد تقرر
أن من كان عرضه مصاناً أو ماله مصاناً لا تدفع تلك الصيانة عنه باعتداء غيره
مثال ذلك لو أن رجلاً سب أباك لم يجز لك سب أبيه
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (34/ 135) :” ولو كذب عليه
لم يكن له أن يكذب عليه وكذلك من سب أبا رجل فليس له أن يسب أباه سواء كان هاشميا أو
غير هاشمي فإن أبا الساب لم يظلمه وإنما ظلمه الساب ولا تزر وازرة وزر أخرى”
ودماء نساء المشركين ودماء ذراريهم مصانة بالنص والإجماع فلا تزول الصيانة
إلا في حال الاضطرار وعدم التعمد كحال البيات ، ولا تزول هذه الصيانة بجناية غيرهم
ومما يعضد المنع من قتل النساء المشركين ولو على سبيل المقابلة والنكاية
، أن النساء والذراري سبي من حق المجاهدين في الغنيمة ، وقتلهم تفويت لمصلحة السبي
على المسلمين حتى رأى بعض الفقهاء أن الإمام لو قتلهم لدفع ضررهم يضمن قيمتهم للمجاهدين
فإن قيل : قد حرق متاع الغال مع ما فيه من منفعة للتنكيل
فيقال : حديث تحريق متاع الغال ضعفه جماعة من أهل العلم .
ولو صح فليس من هذا الباب فإنما
يحرق متاعه لجنايته ، ولا يحرق ما أخذ من الغنيمة فإنه لا يصدق عليه اسم ( المتاع
) له إذ أنه لم يتملكه حتى يكون متاعاً له ، بل يرجع ما غل إلى الغنيمة ويقسم بين المسلمين
بالعدل
ولو طردنا القول بأننا نفعل بالمشركين ما فعلوا بنا ، لذهب أخلاقيات الحرب
عند المسلمين وصرنا كمثلهم وهجرنا السنن في الجهاد لهجرهم لها لأنهم كفار لا يؤمنون
بالله واليوم الآخر فأنى ينتظر منهم أن تكون عندهم أخلاقنا في الحرب
وقد قال الله تعالى : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ
وَلَا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)
فنهاهم الله عز وجل عن الاعتداء بعد الإذن في القتال مع أن الكفار ليسوا
مأمونين الجانب في باب الاعتداء وقد فسر بعض السلف الاعتداء بقتل النساء والصبيان ،
وفسره بعضهم بالمثلة وعموم اللفظ يشمل كل هذا
وبعد البحث الطويل لم أجد أحداً من أهل العلم ممن تقدم أباح قتل نساء المشركين
أو ذراريهم بقصد النكاية أو المقابلة
أما لو مثل الكافر بالمسلم ، بل لو مثل المسلم بالمسلم عند القصاص منه
يفعل به كما فعل بالمجني عليه والدليل حديث العرنيين
وأما التمثيل بجثة الكافر فلا أعلم أحداً من السلف فعله ، بل كرهوا نقل
الرؤوس
قال ابن قدامة في المغني :” ( 7638 ) فَصْلٌ : يُكْرَهُ نَقْل رُءُوسِ
الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ ، وَالْمُثْلَةُ بِقَتْلَاهُمْ وَتَعْذِيبُهُمْ
لِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ ، قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ ، وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ } وَعَنْ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ : إنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ } رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد
وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
.
قَالَ { : إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا
قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ
} رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، بِرَأْسِ الْبِطْرِيقِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : يَا خَلِيفَةَ
رَسُولِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا .
قَالَ : فَاسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ ، لَا يُحْمَلُ إلَيَّ رَأْسٌ
، فَإِنَّمَا يَكْفِي الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : لَمْ يُحْمَلْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسٌ قَطُّ ، وَحُمِلَ إلَى أَبِي بَكْرٍ رَأْسٌ فَأَنْكَرَ ،
وَأَوَّلُ مَنْ حُمِلَتْ إلَيْهِ الرُّءُوسُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَيُكْرَهُ
رَمْيُهَا فِي الْمَنْجَنِيقِ ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ
جَازَ ، لِمَا رَوَيْنَا ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ حِينَ حَاصَرَ الْإِسْكَنْدَرِيَّة
، ظُفِرَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَخَذُوا رَأْسَهُ ، فَجَاءَ قَوْمُهُ عَمْرًا
مُغْضَبِينَ ، فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو خُذُوا رَجُلًا مِنْهُمْ فَاقْطَعُوا رَأْسَهُ
، فَارْمُوا بِهِ إلَيْهِمْ فِي الْمَنْجَنِيقِ ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ ، فَرَمَى أَهْلُ
الْإِسْكَنْدَرِيَّة رَأْسَ الْمُسْلِمِ إلَى قَوْمِهِ “
وأثر عمرو إن صح فهو حالة خاصة بمثل هذا الأمر ، يشبه فداء الأسير بالأسير
وهذه المسألة تختلف عن مسألة قتل النساء من وجهين
الأول : أن قتل النساء أخذ لهن بجناية غيرهن والتمثيل بالجاني أخذ له بجنايته
الثاني : أن قتل النساء فيه تفويت مصلحة السبي على المسلمين وليس في هذا
تفويت مصلحة السبي
على أنني لم أقف على سند رواية عمرو
وتأمل جواب الصديق لما قالوا له ( فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا)
فلم يقل لهم ( إذن يجوز ) بل قال ( فَاسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ
، لَا يُحْمَلُ إلَيَّ رَأْسٌ ، فَإِنَّمَا يَكْفِي الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ)
وهذا الأثر صحيح
قال سعيد بن منصور في سننه 2649: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ
، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
رَبَاحٍ ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَأْسِ يَنَّاقِ الْبِطْرِيقِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، فَقَالَ
: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا ، قَالَ : فَاسْتِنَانٌ
بِفَارِسَ وَالرُّومِ ؟ لاَ تُحْمَلْ إِلَيَّ رَأْسٌ ، فَإِنَّمَا يَكْفِي الْكِتَابُ
وَالْخَبَرُ.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم