هل كان الأوزاعي قدرياً؟
من أغرب الأمور أن تزعم أنك تريد الدفاع عن العلماء وفي سياق دفاعك عن رجل بعينه تتهم جماعة من العلماء بأمور هم براء منها، وكأن تبرئة رجل بعينه ستقتضي تبرئة كل إنسان وجهت إليه تهمة.
لا شك أن عقيدة الإنسان من أهم الأمور التي يقيم بها الإنسان، نعم هناك أمور أخرى يتم تقييمها، ولكن إذا أردنا أن ننظر هو سني أم بدعي فلا بد من النظر في عقيدته.
وثبوت الذم العقدي على إنسان لا يقتضي ضرورة نفي كل صفة مدح في حقه، فقد يكون فقيهاً أو ثقة في الحديث أو زاهداً، وقد يكون مجرداً من هذه الصفات أيضاً (ولهذا مدحه في هذه الجوانب لا ينفي ذم عقيدته إن ثبت ذلك).
والذم العقدي مراتب فهناك بدعة مفسقة، وهناك بدعة اختلف في تكفير أهلها، وهناك بدعة اتفقوا على تكفير أهلها، وهناك الداعية للبدعة وهناك المقلد والساكت، وهذه كلها مراتب يتفاوت معها الذم.
والناس الذين رموا بالبدعة كالناس الذين رموا بالضعف أو بالكذب منهم الذي تحققت إدانته ومنهم من تحققت براءته، لهذا لا يصلح أن ترمي بأمثلة لا توضح وجه الربط بينها، فقد أتكلم في حق إنسان تحققت إدانته فتأتي بإنسان تحققت براءته بأدلة غير متوفرة في مثالنا المتنازع فيه.
قال ابن أبي خيثمة في تاريخه: “4712- وحدثني أبو محمد التميمي، عن أبي مسهر، قال: كان مولد الأوزاعي فتح الطوانة سنة ثمان وثمانين.
قال: وسمعت سعيد بن عبد العزيز يقول: ولد الأوزاعي قبل أن يجتمع أبواي.
وسمعت سعيد بن عبد العزيز يقول غير مرة: أما أنا فما كنت قدريا؛ كأنه يعرض بأبي عمرو؛ يعني: الأوزاعي.
4713- حدثنا أحمد، قال: حدثني سعيد بن عبد العزيز، عن عبد الله بن عامر الأسلمي، قال: سمعت الأوزاعي يقول: ربما خدمت غيلان يعني القدري”.
أقول: أورد شخص هذه الرواية ليقول (هذا الأوزاعي إمامكم كان قدرياً)، وأراد بذلك إظهار الانتقام لإمام أهل الرأي، وممن أورد هذه الرواية وأراد إظهار ثلب أهل الحديث أبو القاسم الكعبي المعتزلي في كتابه قبول الأخبار.
والرواية مدارها على رجل يقال له أبو محمد التميمي، وهذا التميمي نفسه روى ما يدل على براءة الأوزاعي من القدر، وذلك في تاريخ ابن أبي خيثمة نفسه، وبنفس الإسناد.
قال ابن أبي خيثمة في تاريخه: “1452- حدثني صاحب لي يكنى أبا محمد من بني تميم، عن أبي مسهر، قال: سمعت الأوزاعي يقول: لا نعلم أحدا من أهل العلم نسب إلى هذا الرأي -يعني: القدر- إلا ما كان من هذين الرجلين: الحسن ومكحول، ولم يثبت لنا ذلك عليهما”.
(صاحب لي) يكنى أبو محمد من بني تميم هو نفسه أبو محمد التميمي (وقد ترجم له ابن عساكر في تاريخ دمشق وسماه يحيى، وذكر رواية بإسناد طويل فيها توثيق ابن أبي خيثمة له والله أعلم بها)، وهذه الرواية إن طعن بها المعترض فيلزمه الطعن في روايته التي ذكرها مبدئياً، فالإسناد هو نفس الإسناد، علماً أن رواية سعيد قد يكون المراد منها الحديث عن بدايات الأوزاعي، وحرص الأوزاعي على تبرئة الحسن ومكحول من قول القدرية يدل على أنه ما كان كذلك.
وهذه الرواية لها أسانيد عن الأوزاعي من غير طريق أبي محمد التميمي، فقد رواه ابن بطة في الإبانة، وابن عساكر في تاريخ دمشق (وهو إنما ينقل عن تواريخ قديمة بإسناده).
قال الفريابي في القدر: “348- حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا محمد بن شعيب قال: سمعت الأوزاعي، يقول: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق، يقال له: سوسن كان نصرانيا، فأسلم، ثم تنصر وأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد”.
وهذا إسناد صحيح إلى الأوزاعي، وهذا ذم ظاهر للقدرية إذ أرجعهم إلى الاقتداء بالنصارى.
قال اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة: “995- وأخبرنا عبيد الله، أخبرنا عبد الله بن محمد بن زياد قال: ثنا محمد بن يحيى قال: ثنا محمد بن يوسف قال: ثنا الأوزاعي قال: حدثني الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» قال الأوزاعي: وذلك بقضاء وقدر”.
وهذا إسناد صحيح إلى الأوزاعي.
وقال الخلال في السنة: “931- أخبرنا محمد بن عبد الصمد المقرئ المصيصي، قال: ثنا محمد بن عبد الرحمن بن سهم الأنطاكي، قال: أخبرني الفزاري أبو إسحاق، قال: قال لي الأوزاعي: أتاني رجلان فسألاني عن القدر، فأحببت أن آتيك بهما تسمع كلامهما، وتجيبهما: قلت: رحمك الله، أنت أولى بالجواب، قال: فأتاني الأوزاعي، ومعه الرجلان، فقال: تكلما، فقالا: قدم علينا ناس من أهل القدر، فنازعونا في القدر ونازعناهم، حتى بلغ بنا وبهم الجواب إلى أن قلنا: إن الله قد جبرنا على ما نهانا عنه، وحال بيننا وبين ما أمرنا به، ورزقنا ما حرم علينا ، فقال: أجبهما يا أبا إسحاق، قلت: رحمك الله، أنت أولى بالجواب، قال: أجبهما، فكرهت خلافه، فقلت: يا هؤلاء، إن الذين أتوكم بما أتوكم قد ابتدعوا وأحدثوا حدثا، وإني أراكم قد خرجتم من البدعة إلى مثل ما خرجوا إليه، فقال: أصبت وأحسنت يا أبا إسحاق”.
أقول: شيخ الخلال من شيوخ الطبراني، وقد رجح صاحب شيوخ الطبراني أنه صدوق (وكان ابن تيمية دائماً يستدل بكلام الأوزاعي في الرد على الجبرية).
وقال الفريابي في القدر: “410- حدثنا أبو مروان عبد الملك بن حبيب المصيصي، حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى ابن له كتبا، وكان في أول ما كتب: إني أسأل الله الذي بيده القلوب؛ يصنع فيها ما شاء، من هدى أو ضلالة”.
وروى الأوزاعي أيضاً خبراً عن ابن عباس في ذم القدرية، فبمجموع هذه ظهرت براءته من تهمة ما قامت لها قائمة من الأساس (وأما قصة استتابته لغيلان قبل قتله فمع شهرتها هي محل بحث).
وأهل الحديث ليسوا مغفلين حتى يفرقوا بين المتماثلات، فيذموا شخصاً ويكثروا في ذلك ثم يمدحون نظيراً له وقع فيما وقع فيه ويكثرون من المدح أيضاً.