راسلني أحد الإخوة قبل مدة بعدَّة اتهامات لشيخ الإسلام القصد منها التشنيع عليه، وهي ما بين تهويل وافتراء، ومن أعجبها نسبته إلى عدم تكفير الساجد لغير الله عز وجل.
وجمعت له جمعاً ثم وجدت بعضهم ينشر هذه الفرية في بطاقة وسئلت عنها، فعزمت أن أكتب كتابة ولا يكون الجواب على الخاص فحسب.
قال ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» [4/358]: “وأجمع المسلمون على: أن السجود لغير الله محرم”.
اعتمدوا هذا النص وقالوا انظروا هو يقول محرم فقط ولا يتحدث عن التكفير!
مع أنه قبلها قال: “كما أن السجود إلى الكعبة ليس فيه تفضيل للكعبة على المؤمن عند الله بل حرمة المؤمن عند الله أفضل من حرمتها وقالوا: السجود لغير الله محرم بل كفر. والجواب: أن السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه بإجماع من يسمع قوله ويدل على ذلك وجوه: أحدها: قوله لآدم: ولم يقل: إلى آدم. وكل حرف له معنى ومن التمييز في اللسان أن يقال: سجدت له وسجدت إليه. كما قال تعالى: {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} وقال {ولله يسجد من في السماوات والأرض}”.
فأقرَّ القول أن السجود لغير الله كفر، وكان سياق كلامه في مسألة أخرى، وذِكر التحريم لا ينافي التكفير.
وقالوا إن الشيخ قال كما في «مجموع الفتاوى» [4/16]: “ولا يجوز السجود لغير الله من الأحياء والأموات ولا تقبيل القبور ويعزر فاعله”.
فقالوا: انظر كيف أنه قال يعزَّر، فهذا دليل أنه لا يكفِّر بالسجود لغير الله.
علماً أن قوله (ويعزَّر فاعله) يجوز أن يكون عائداً على أقرب مذكور، غير أن هذا الكلام ليس لابن تيمية، وإنما هو للعز بن عبد السلام نقله ابن تيمية بحروفه، ثم ناقش كثيراً من مضامينه، ففي بقية الكلام الذب عن الأشاعرة ووصفهم بأنهم أنصار الدين.
وقد وقع لمحمد بن علي الصابوني أنه نسب هذا الكلام لابن تيمية، فردَّ عليه الدكتور سفر الحوالي في رسالته «منهج الأشاعرة» قائلاً: “فات فضيلته أن يرد على الصابوني فيما عزاه إلى شيخ الإسلام -مكررا إياه- من قوله: “الأشعرية أنصار أصول الدين، والعلماء أنصار فروع الدين”.
ولعل الشيخ وثق في نقل الصابوني، مع أن الصابوني -على ما أرجح- أول من يعلم بطلان نسبة هذا الكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولغة العبارة نفسها ليست من أسلوب شيخ الإسلام، والغريب حقا أنه أعاد هذا العزو في بيانه الأخير بالعدد 646 مؤكدا إصراره على التمويه والتدليس.
وأنا أطلب من كل قارئ أن يراجع النص في ج4 ص16 من مجموع الفتاوى ليجد بنفسه قبل تلك العبارة نفسها كلمة (قال) فالكلام محكي منقول وقائله هو المذكور في أول الكلام -آخر سطر من ص 15- حيث يقول شيخ الإسلام:
“وكذلك رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد فتوى طويلة … قال فيها: “إلى أن يقول:
قال: وأما لعن العلماء الأئمة الأشعرية فمن لعنهم عزر وعادت اللعنة عليه … والعلماء أنصار فروع الدين والأشعرية أنصار أصول الدين.
“قال: وأما دخولهم النار …” إلخ
وفى آخر هذه الفتوى نفسها يقول شيخ الإسلام (ص 158-159، وانظر أيضا 156). “وأيضا فيقال هؤلاء الجهمية الكلامية كصاحب هذا الكلام أبي محمد وأمثاله كيف تدعون طريقة السلف وغاية ما عند السلف أن يكونوا متابعين لرسول الله ﷺ؟”.
والكلام الذي قال فيه الدكتور سفر ما قال هو عينه الكلام الذي فيه تعزير مقبِّل القبور وبعدها ذِكر تعزير لاعن الأشعرية.
والآن مع نصوص الشيخ الواضحة في التكفير بالسجود لغير الله:
قال ابن تيمية كما في «جامع المسائل» [8/24]: “احتجَّ بعضُ المُبطِلين في جواز السجود لغير الله من الملوك والشيوخ والوالدين بثلاث حجج” (ثم ذكرها).
وقال بعدها: “فانظر إلى هؤلاء الكفّار الضالين، بينما أحدهم يزعم أنه هو الله وأنه ما ثَمَّ غيرُه، ويصعَدُ فوقَ الأنبياء والصديقين”.
وقال كما في «جامع المسائل» [1/25]: “والإنسان هو الجامع الذي سجدتْ له القوى جميعُها.
وبطلانُ هذا الكلام ظاهرٌ، بل كفرُ صاحبه ظاهرٌ، فإن نصوص السنة وإجماع الأمة تُحرِّم السجودَ لغير الله في شريعتنا تحيةً أو عبادةً، كنهيه لمعاذ بن جبل أن يسجد لما قدمَ من الشام وسجدَ له سجود تحية، وأخبر بها عن رؤساء النصارى، وقوله: «لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها». بل قد نهى النبي ﷺ عن قيام أصحابه في الصلاة خلفَه، وقال: «لا تُعظِّموني كما تُعظِّم الأعاجمُ بعضُها بعضًا»، رواه مسلم. ونهى عن الانحناء وقتَ التحية؛ لأنه ركوعٌ، وهو دون السجود”.
تأمَّل قوله: “بل كُفر صاحبه ظاهر”، وصرح في غير موضع أن السجود عبادة لا يجوز صرفها لغير الله، وأما سجود التحية فأبيح في شرائع أخرى فحسب.