فإن الإمام مالكاً _ رحمه الله _ في كتابه النفيس الجليل ( الموطأ ) قد
كان متمكناً من معظم السنة الصحيحة فيما يتعلق بأحاديث الأحكام
وكان يردف بما يتحصل عنده من آثار الصحابة والتابعين
وكان للإمام مالك طرق إلى عدد من المكثرين من الصحابة الكرام
فهي تلميذ ابن شهاب الزهري والزهري أدرك أربعة بحور من قريش كما يقول
الأول سعيد بن المسيب وعنده علم عمر بن الخطاب ويروي عن أبي هريرة وغيره
من الصحابة
والثاني : عروة بن الزبير وعنده حديث خالته عائشة ، وقد أضاف إليه الزهري
عمرة في مسألة الرواية عن عائشة وكان عروة يروي عن غير عائشة وإنما التنبيه هنا على
المشهور
والثالث : أبو سلمة بن عبد الرحمن وهذا يروي عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي
سعيد الخدري وجابر وكلهم مكثرون ، ويروي عن غيرهم وإنما التنبيه على المكثرين
والرابع : عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وهذا الرجل غزير العلم جداً لذا
كان الزهري يطريه وهو من أعيان الرواة عن ابن عباس
فإذا أضفنا إلى هؤلاء تلمذة الزهري على أنس مباشرة ، وتلمذته على سالم
بن عبد الله بن عمر الذي حفظ علم أبيه
اكتشفنا أن الزهري فقط من شيوخ مالك كان له أسانيد إلى عامة المكثرين من
الصحابة وهم عائشة وجابر وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري
بالإضافة إلى علم عمر بن الخطاب
وهؤلاء المذكورون عندهم شيوخ آخرون وإنما المقصد التنبيه على الرواية عن
المكثرين
فإذا أضفنا إلى هذا تلمذة الإمام مالك على هشام بن عروة الذي يروي عن أبيه
عن عائشة ، وتملذته على عبد الرحمن بن القاسم الذي يروي عن أبيه عن عائشة
وتملذته على نافع مولى ابن عمر ، وتملذته على نعيم المجمر الذي يروي عن
أبي هريرة مباشرة ، وتملذته على حميد الطويل الذي يروي عن أنس مباشرة ، وتملذته على
أبي سلمة بن دينار الذي كان من خاصة سهل بن سعد الساعدي ، وتلمذته على أبي الزناد صاحب
السلسلة المشهورة أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة
إذا علمت هذا وعرفت أن هذه بعد أسانيد الإمام مالك علمت أنه كان يغرف من
بحر في موطئه
خصوصاً أنه له شيوخاً أخر بل كان أحياناً ينزل فيروي عن أيوب وهو قرينه
يأخذ عنه بعض أحاديث أهل البصرة
والعجيب أنك لا تجد في الموطأ أحاديث مرفوعة من طريق ابن مسعود وإنما ذكر
عنه آثاراً موقوفة أكثرها بلاغات
والسبب في ذلك نفرته من حديث أهل الكوفة
وقد كان حديث ابن مسعود عند سفيان الثوري الذي تتملذ على منصور بن المعتمر
والأعمش وأبي إسحاق السبيعي وغيرهم
فمنصور والأعمش حملا العلم إبراهيم النخعي الذي حمل عن الأسود وعلقمة عن
ابن مسعود
ولهما طرق أخرى عن ابن مسعود
وأما السبيعي فسمع البراء بن عازب ، وسمع عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب
، وسمع أبا الأحوص عن عبد الله بن مسعود ، وكذا سمع ابنه أبا عبيدة
ولهم أسانيد أخرى ، ولعل هذا سبب تفضيل بعض الأئمة لسفيان على مالك ، فإن
سفيان له حظ من حديث أهل الكوفة وحديث أهل البصرة وأهل المدينة ، بيد أن الإمام مالكاً
مع أن حظه من حديث أهل المدينة أعظم إلى أن حظه من حديث أهل الكوفة قليل جداً
وقد كان عبد الرزاق تتلمذ على سفيان الثوري ومالك بن أنس فحمل هذا الخير
كله ، وحمل أيضاً عن ابن المبارك ومعمر بن راشد
وله شيوخ أخر ولكن هؤلاء هم المشاهير
ومعمر بن راشد كان أعجوبة من الأعاجيب حمل عن الستة الذين عليهم مدار الإسناد
ولم يكن ذلك لأحد غيره فحمل عن قتادة والزهري والأعمش ويحيى بن أبي كثير وعمرو بن دينار
وأبي إسحاق السبيعي ( وحمل عن غيرهم أيضاً )
ثم جاء الإمام أحمد ابن حنبل _ رحمه الله _ فحمل عن مئات الشيوخ وكان عبد
الرزاق واحداً منهم فأي رجل كان هذا ؟
لقد كان بحوراً مجتمعة في بحر ، وقد جمع الله له علم الأولين والآخرين
إلا شيئاً يسيراً فرحمه الله من إمام ورحم الله جميع أئمتنا من أهل السنة الذين حفظوا
لنا السنة وحفظوا لنا آثار الصحابة وآثار التابعين
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم