هل صح عن الصديق أنه قال اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ ؟

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن مما اشتهر عند العامة والخاصة أن أبا بكر الصديق كان إذا أثنى عليه
أحد يقول

( اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لا
يَعْلَمُونَ واجعلني خيراً مما يظنون )

والحق أن هذا لا يصح عن الصديق وإنما ورد عن بعض السلف

قال البخاري في الأدب المفرد 761- حَدثنا مَخْلَدُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ:
حَدثنا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ
بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ أَرْطَأَةَ قَالَ: كَانَ
الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيهِ وسَلم إِذَا زُكِّيَ قَالَ:
اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ.

هذا اللفظ رواه حجاج بن محمد عن مبارك بن فضالة ويلاحظ فيه أمران

الأول : أنه لم يسم الصحابي

الثاني : أنه ليس فيه قوله ( واجعلني خيراً مما يظنون )

وعدي بن أرطأة من الطبقة التي تلي الوسطى من التابعين وهذه الطبقة لم تدرك
الصديق بل الذي يغلب على الظن أنه بينه وبين الصديق اثنان للتباعد القطري أيضاً فهو
شامي والصديق مدني على أنه لم يصرح بالصديق ونصه يحمل على الصحابة الذين رآهم في الشام
إن صح

وقد خولف حجاج بن محمد في سند الخبر خالفه هاشم بن القاسم وعفان بن مسلم

قال أحمد في الزهد 1150-حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ ، حَدَّثَنَا
الْمُبَارَكُ ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ
أَرْطَاةَ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ ، وَكَانَ لَهُ فَضْلٌ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أُثْنِيَ
عَلَيْهِ أَوْ مُدِحَ فَسَمِعَ قَالَ : اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ
وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ .

وقال ابن أبي شيبة في المصنف 36853- حَدَّثَنَا عَفَّانُ ، قَالَ : حدَّثَنَا
مُبَارَكٌ بْنُ فَضَالة ، قَالَ : حَدَّثَنَا بَكْرٌ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ
، عَنْ رَجُلٍ كَانَ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ ، قَالَ : كَانُوا إذْ أَثْنُوا
عَلَيْهِ فَسَمِعَ ذَلِكَ ، قَالَ : اللَّهُمَّ لاَ تُؤَاخِذُنِي بِمَا يَقُولُونَ
، وَاغْفِرْ لِي مَا لاَ يَعْلَمُونَ.

وهذا أصح لأنه رواية الأكثر ويلاحظ في هذا الأثر أمران

الأول : أنه لم يسم الصحابي الذي من الصدر الأول فقد يكون الصديق وقد يكون
غيره ويغلب على الظن الانقطاع لأن عدياً تابعي صغير

الثاني : أنه ليس فيه قوله ( واجعلني خيراً مما يظنون )

وقد ورد الحث على دعاء نحواً من هذا عن الأوزاعي

قال البيهقي في الشعب 4875 – أخبرنا أبو عبد الله الحافظ و أبو بكر أحمد
بن الحسن القاضي نا أبو العباس محمد يعقوب أنا العباس بن الوليد بن مزيد نا أبي قال
: سمعت الأوزاعي يقول : إذا أثنى رجل على رجل في وجهه فليقل اللهم أنت أعلم بي من نفسي
و أنا بنفسي من الناس اللهم لا تؤاخذني بما يقولون و اغفر لي مالا يعلمون

وهذا صحيح إلى الأوزاعي ويلاحظ في هذا أمران

الأول : أن الأوزاعي لم يرفع هذا الخبر إلى أحد أصلاً

الثاني : أنه خلاف الدعاء المشهور وليس فيه قوله ( واجعلني خيراً مما يظنون
)

قال البيهقي في الشعب 4876 – و أخبرنا أبو عبد الله الحافظ و أبو بكر بن
الحسن نا أبو العباس نا أبو عتبة نا بقية نا محمد بن زياد عن بعض السلف : أنه كان يقول
في الرجل يمدح في وجهه قال : التوبة منه أن يقول اللهم لا تؤاخذني بما يقولون و اغفر
لي ما لا يعملون و اجعلني خيرا مما يظنون

وهذا إسناد ضعيف أبو عتبة أحمد بن الفرج تكلموا في حفظه وعدالته ويلاحظ
في الخبر أمور

الأول : أنه لم يصرح باسم الرجل من السلف الذي حفظ عنه الدعاء فقد يكون
الصديق وقد يكون غيره

الثاني : لو كان الصديق لكان الخبر منقطعاً فالألهاني تابعي صغير

ولو فرضنا جدلاً أن عدي بن أرطأة والألهاني رفعا الخبر صريحاً إلى الصديق
لكان ضعيفاً لأنهما شاميان ومن طبقة واحدة فاحتمال عود الطريقين إلى واحدة وارد بقوة
هذا مع تفرد الألهاني بزيادة ( واجعلني خيراً مما يظنون )

فكيف وهم لم يصرحوا بذلك ؟

قال أبو نعيم في الحلية (5/240) : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ،
ثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، ثنا أَبُو الْمُغِيرَةِ،
ثنا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ يَزِيدُ بْنُ مَيْسَرَةَ فِيمَا بَلَغَنَا
يَقُولُ: ” إِذَا زَكَّاكَ رَجُلٌ فِي وَجْهِكَ فَأَنْكِرْ عَلَيْهِ وَاغْضَبْ،
وَلَا تُقِرَّ بِذَلِكَ، وَقُلِ: اللهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ
لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ “

وهذا إسناد منقطع ويلاحظ أن يزيد بن ميسرة لم يرفع هذا الخبر إلى أحد ولم
يقل فيه ( واجعلني خيراً مما يظنون ) ويزيد من أتباع التابعين

وقال ابن المبارك في الزهد 1666 – أنا إبراهيم بن نشيط قال : سمعت عمر
مولى غفرة يقول : « أبعد الناس من النفاق أشدهم تخوفا على نفسه منه ، الذي يرى أنه
لا ينجيه منه شيء ، وأقرب الناس منه إذا زكي بما ليس فيه ارتاح قلبه وقبله » وقال
: « قل إذا زكيت بما ليس فيك : اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ، ولا تؤاخذني بما يقولون
، فإنك تعلم ولا يعلمون »

عمر مولى غفرة في نفسه ضعيف وهو لم يرفع الخبر إلى أحد وليس فيه قوله
( واجعلني خيراً مما يظنون )

قال ابن الأثير في أسد الغابة [3/ 221]:

وَأَخْبَرَنَا أَبِي، أَخْبَرَنَا أَبُو السّعُودِ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ محمد بن المجلّى، حدثنا محمد ابن مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْعُكْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا
أَبُو الطَّيِّبِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَلَفِ بْنِ خَاقَانَ، أَخْبَرَنَا
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ دُرَيْدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِمٍ،
عَنِ الأَصْمَعِيِّ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا مُدِحَ قَالَ:

اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي، وَأَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي
مِنْهُمْ، اللَّهمّ اجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ،
وَلا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ.

ورواه أيضا ابن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب [9/ 4005]

وهذا هو الطريق الوحيد الذي ذكر فيه الصديق رضي الله عنه

وهذا معضل فالأصمعي من صغار أتباع التابعين ففي العادة يروي عن أبو بكر
الصديق بواسطتين أو ثلاثة وابن دريد طعنوا في عدالته.

قال الذهبي في ميزان الاعتدال: 7405 – محمد بن الحسن بن دريد، أبو بكر
صاحب اللغة.

أخذ عن أبي حاتم السجستاني، وأبي الفضل الرياشي، وطبقتهما.

وكان رأسا في الآداب، يضرب المثل بحفظه.

قال الدارقطني: تكلموا فيه.

وقال أبو منصور الأزهري اللغوي: دخلت على ابن دريد، فرأيته سكران.

قيل: مات سنة إحدى وعشرة وثلثمائة. اهـ

والخلاصة أن الأثر بهذا التمام عن الصديق إسناد ضعيف جداً فلا يصح بل إن
لفظة ( واجعلني خيراً مما يظنون ) لا تصح عن الصديق ولا عن غيره من الصحابة والتابعين

بل قالها الإمام أحمد وحده وليس صحابياً أو تابعياً

قال المروذي في الورع 494 – قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ بَعْضَ
الْمُحَدِّثِينَ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَزْهَدْ فِي الدَّرَاهِمِ وَحْدَهَا
قَدْ زَهِدَ فِي النَّاسِ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَمَنْ أَنَا حَتَّى أَزْهَدَ
فِي النَّاسِ النَّاسُ يُرِيدُونَ يَزْهَدُونَ فِيَّ

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا خَيْرًا
مِمَّا يَظُنُّونَ وَيَغْفِرَ لَنَا مَا لَا يَعْلَمُونَ.

هكذا قالها من إنشائه

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم