هل صح عن السلف أنهم كانوا يتركون مجالس العلم في رمضان؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن مما اشتهر في هذه الأعصار أن السلف كانوا يتركون مجالس العلم في شهر
رمضان ويتفرغون لقراءة القرآن.

 والحق أن ذلك قد روي عن ثلاثة من علماء السلف وهم الزهري
وهو تابعي وعن الثوري ومالك وهما من أتباع التابعين ، ولم يرد شيءٌ عن الصحابة في ذلك.

 قال ابن رجب في لطائف المعارف
(1/183): كان الزهري إذا دخل رمضان يقول : إنما هو قراءة القرآن و إطعام الطعام .

قال ابن الحكم : كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث و مجالسة
أهل العلم.

قال عبد الرزاق : كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة و أقبل
على قراءة القرآن .اهـ

وهذه الآثار الثلاثة لم أجد لها أسانيد بعد البحث الطويل ، ولم أجد أحداً
ذكرها قبل الحافظ ابن رجب ، وقد استعنت ببعض البرامج البحثية .

ثم وجدت سنداً لأثر الزهري : قال ابن عبد البر في التمهيد (6/111) : حدثنا
خلف بن أحمد , حدثنا أحمد بن سعيد قال : سمعت عبدالله ابن جعفر أبا القاسم القزويني
يقول : سمعت طاهر بن خالد بن نزار يقول : سمعت أبي يقول سمعت القاسم بن مبرور يقول
: سمعت يونس بن يزيد يقول : كان ابن شهاب إذا دخل رمضان فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام
الطعام وكان ابن شهاب أكرم الناس وأخباره في الجود كثيرة جدا نذكر منها لمحة دالة.اهـ

أقول : وهذا سندٌ لا يصح فعبد الله بن محمد بن جعفر أبو القاسم القزويني،
قال ابن عساكر في ترجمته من تاريخ دمشق (32/ 169) : قال ابن المقرئ هكذا حدثنا هذا
الشيخ ورأيت اصحابنا ضعفوه بعد كتابنا عنه والله اعلم وأنكروا عليه أشياء.اهـ

وقال أيضاً (32/ 171) : أخبرنا أبو محمد بن الأكفاني شفاها نا عبد العزيز
بن احمد نا تمام بن محمد اجازة أنا أبو عبد الله بن مروان قال وكان خليفته يعني محمد
بن العباس الجمحي على دمشق عبد الله بن محمد القزويني كتب إلي أبو زكريا يحيى بن عبد
الوهاب بن مندة وحدثني أبو بكر اللفتواني عنه أخبرنا عمي عن أبيه ح قال اللفتواني وأنا
أبو عمرو بن مندة اجازة عن أبيه أبي عبد الله قال قال أنا أبو سعيد بن يونس :

عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني يكنى أبا القاسم كان فقيها على مذهب
الشافعي وكانت له حلقة بمصر .

وكان قد تولى قضاء الرملة وكان محمودا فيما يتولى وكان يظهر عبادة وورعا
وكان قد ثقل سمعه شديدا وكان يفهم الحديث ويحفظ .

وكان له مجلس إملاء في داره وكان يجتمع إليه حفاظ الحديث وذوو الأسنان
منهم .

وكان مجلسه وقيرا ويجتمع فيه جمع كثير فخلط في آخر عمره ووضع أحاديث على
متون محفوظة معروفة وزاد في نسخ معروفة مشهورة فافتضح وحرقت الكتب في وجهه وسقط عند
الناس وترك مجلسه فلم يكن يجئ إليه أحد توفي بعد ذلك بيسير.اهـ

وقال أيضاً : واخذ عليه انه كان إذا حدث يقول لأبي جعفر بن البرقي في حديث
بعد حديث كتبت هذا عن أحد فكان ذاك يقول له نعم كتبته عن فلان وفلان فلما كثر هذا منه،
قال له القزويني: “ما مثلي ومثلك إلا كشاعر جاء إلى رجل فمدحه بقصيدة فلما فرغ
منها وانتظر جائزته قال له هذه قصيدة مقولة فحلف ذاك انه ما قالها إلا هو وانه سهر
فيها حتى نظمها فقال له الممدوح أنا انشدك إياها حتى تعلم أنها مقولة فأنشده إياها
فأنكر الناس هذا على القزويني مع ما أنكروا عليه واتهموه بأنه يفتعل الأحاديث”.اهـ

وفي سؤالات الحاكم للدارقطني : [ 115 ] سألت أبا الحسن عن عبد الله بن
محمد بن جعفر القزويني المحدث بمصر

فقال : كذاب يضع الحديث.اهـ

أقول : فهذا الأثر موضوع على الزهري والله أعلم .

وقال المزي في تهذيب الكمال (2/397) : وَقَال عَبد الله بن الحسين المصيصي
: سمعت عَبد الله بن يوسف يقول : سماعي [ الموطأ] من مالك عرض الحنيني ، عرضه عليه
مرتين ، سمعت أنا وأبو مسهر.

قال : وكان الحنيني إذا دخل شهر رمضان ، ترك سماع الحديث، فقال له مالك
: يا أبا يعقوب ، لم تترك سماع الحديث في رمضان ؟

إن كان فيه شيء يكره في رمضان ، فهو في غير رمضان يكره ؟ فقال له الحنيني
: يا أبا عَبد الله ، شهر أحب أن أتفرغ فيه لنفسي.اهـ

المصيصي قال عنه ابن حبان في المجروحين : كَانَ يَقْلِبُ الأَخْبَارَ وَيَسْرِقُهَا،
لاَ يَجُوْزُ الاحْتِجَاجُ بِهِ إِذَا انْفَرَدَ .اهـ

أقول : وهذا الأثر – إن صح – يخالف ذلك الذي أورده ابن رجب عن الإمام مالك
، فظاهره أن الإمام مالك ينكر على من ترك مجالس الحديث في رمضان ، ويقيس في ذلك قياساً
صحيحاً ، وهو أن ما كان قربةً في غير رمضان ، فهو قربة في رمضان أيضاً ، ولكن الأثر
لا يصح عن مالك ، وحتى الأثر الذي ذكره ابن رجب لو صح إلى ابن عبد الحكم فلا يصح عن
مالك فإن ابن عبد الحكم لم يدرك مالكاً .

وقبل أن أن أتيح المجال للإخوة ليفيدوا بما عندهم في هذا الموضوع : هنا
عدة تنبيهات :

التنبيه الأول :

لا شك عند عموم المسلمين في فضل القرآن وضروروة العناية به لكل مسلم وأن
ذلك يتأكد في رمضان .

قال أبو عبيد القاسم ببن سلام في فضائل القرآن [ 234 ] :

حدثنا حجاج ، عن شعبة ، عن محمد بن ذكوان ، عن عبد الرحمن بن عبد الله
بن مسعود ، عن أبيه ، أنه كان يقرأ القرآن في رمضان في ثلاث.

وقال ابن كثير في فضائل القرآن : ولهذا يستحب إكثار تلاوة القرآن فى شهر
رمضان لأنه ابتدئ بنزوله ولهذا كان جبريل يعارض به رسول الله فى كل سنة فى شهر رمضان.اهـ

ولكن لا بد لقاريء القرآن من تدبره ، قال الله تعالى : {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ
إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}.

قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/74) : الوجه الخامس والخمسون :
ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه
و سلم انه قال: [ خيركم من تعلم القرآن وعلمه ] .

وتعلم القرآن وتعليمه يتناول تعلم حروفه وتعليمها وتعلم معانيه وتعليمها
وهو اشرف قسمي علمه وتعليمه فإن المعنى هو المقصود واللفظ وسيلة اليه فنعلم المعنى
وتعليمه تعلم الغاية وتعليمها وتعلم اللفظ المجرد وتعليمه تعلم الوسائل وتعليمها وبينهما
كما بين الغايات والوسائل.اهـ

وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (17/ 424) : و أما النوع الثانى
الجهال فهؤلاء الأميون الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني و إن هم إلا يظنون .

فعن ابن عباس و قتادة فى قوله و منهم أميون أي غير عارفين بمعاني الكتاب
يعلمونها حفظا و قراءة بلا فهم و لا يدرون ما فيه .

و قوله إلا أمانى أي : تلاوة .

فهم لا يعلمون فقه الكتاب إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم .

قاله الكسائي و الزجاج و كذلك قال ابن السائب لا يحسنون قراءة الكتاب و
لا كتابته إلا أمانى إلا ما يحدثهم به علماؤهم .

و قال أبو روق و أبو عبيدة أي تلاوة و قراءة عن ظهر القلب و لا يقرأونها
فى الكتب ففي هذا القول جعل الأماني التى هي التلاوة تلاوة الأميين أنفسهم و في ذلك
جعله ما يسمعونه من تلاوة علمائهم و كلا القولين حق و الآية تعمهما.اهـ

أقول : ولا شك أن تعلم السنة من أعظم ما يعين على فهم القرآن .

قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ
مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.

فلا يجوز والحال هذه ، أن يجعل تعلم السنة المعين على فهم القرآن من الصد
عن القرآن الذي يتأكد الإقبال عليه في شهر رمضان ، بل إن تعلم السنة من أعظم ما يعين
على فهم القرآن.

وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 178) : والكلام في العلم
أفضل من الأعمال ، وهو يجري عندهم مجرى الذكر والتلاوة إذا أريد به نفي الجهل ووجه
الله تعالى والوقوف على حقيقة المعاني.اهـ

قال الله تعالى: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله
كان لطيفا خبيرا}.

قال الشافعي في الرسالة [ ص77 ] : فذكر الله الكتاب وهو القرآن وذكر الحكمة
فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول الحكمة سنة رسول الله.اهـ

أقول : فإذا كانت الحكمة هي السنة ، فالأمر بذكرها شاملٌ لكل السنة ، لا
فرق بين شهر وشهر .

والزهري ومالك وسفيان إذا قرأوا القرآن ، فقهوه على وجهه لما عندهم من
علم الكتاب والسنة وآثار السلف ، واكتمال أدوات الاجتهاد عندهم ، وهذا لا يوجد في عامة
أهل عصرنا.

قال زهير بن حرب في كتاب العلم [ 97 ]: ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد
بن زيد عن أيوب قال قال رجل لمطرف : أفضل من القرآن تريدون ؟

قال : لا , ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا .

وهذا يبين منهجية السلف في طلب فقه القرآن ، وأن ذلك يكون بطلب الأحاديث
النبوية والآثار السلفية .

التنبيه الثاني :

الأثر الوارد عن سفيان فيه أنه كان يترك جميع العبادة ، يدل على أنه يترك
فضول المباحات من باب أولى .

فلا يأتي شخصٌ مسرف في المباحات ولا يقبل على القرآن إقبال السلف ، بل
إذا قرأه هذه هذاً , ولا يفقه كثيراً منه ، ثم يترك مجالس العلم بل ينكر على من يرى
في يده كتاباً ، أو يحضر مجالس العلم بحجة اتباع السلف !

التنبيه الثالث :

قال البخاري في صحيحه [ 1902 ] : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ:

كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ
وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ؟

وَكَانَ جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السَّلَام يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ
عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ
.

أقول : وأعظم الجود ، الجود بالعلم .

قال ابن رجب في لطائف المعارف [ ص171] : فدل هذا على أنه – صلى الله عليه
وسلم – أجود بني آدم على الإطلاق .

كما أنه أفضلهم وأعلمهم وأشجعهم وأكملهم في جميع الأوصاف الحميدة.

وكان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال وبذل نفسه لله تعالى
في إظهار دينه وهداية عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق من إطعام جائعهم ووعظ جاهلهم
وقضاء حوائجهم وتحمل أثقالهم، ولم يزل – صلى الله عليه وسلم – على هذه الخصال الحميدة
منذ نشأ.اهـ

وما قاله ابن رجب متجه فالصحابي قال ( أجود بالخير ) ولم يقل ( أجود بالمال
)، والألف واللام للاستغراق فتفيد العموم ، والمناسبة بين الجود بالعلم ومعارضة جبريل
بالقرآن ، أظهر وأبين من المناسبة بين الجود بالمال ومعارضة جبريل بالقرآن وإن كان
كلاهما واقعاً منه صلى الله عليه وسلم .اهـ

وقال ابن القيم في مدارج السالكين (2/292) : الجود بالعلم وبذله وهو من
أعلى مراتب الجود والجود به أفضل من الجود بالمال لأن العلم أشرف من المال .اهـ

وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (4/42) : كما أن لله ملائكة موكلة
بالسحاب والمطر فله ملائكة موكلة بالهدى والعلم هذا رزق القلوب وقوتها وهذا رزق الأجساد
وقوتها قال الحسن البصري في قوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون } قال إن من أعظم النفقة
نفقة العلم أو نحو هذا الكلام وفي أثر آخر نعمت العطية ونعمت الهدية الكلمة من الخير
يسمعها الرجل فيهديها إلى أخ له مسلم .اهـ

أقول : فإقامة مجالس للعلم تسد شيئاً من حاجة الناس إلى الوحي ، من أعظم
ما يحصل به الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في جوده في شهر رمضان .

بل حاجة الناس إلى العلم أعظم من حاجتهم إلى المال قال شيخ الإسلام كما
في مجموع الفتاوى (22/ 402) : فَتَبَيَّنَ أَنَّ حَاجَةَ الْعِبَادِ إلَى الْهُدَى
أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إلَى الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا؛
فَلِهَذَا كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ هُوَ الْمَفْرُوضُ عَلَيْهِمْ.اهـ

التنبيه الرابع :

نجد بعض الناس يتركون مجالس العلم في شهر رمضان ، وربما أنكروا على من
يحضرها في هذا الشهر ، والحجة اتباع السلف ! ، ثم نجده حريصاً حرصاً عظيماً على إعطاء
كلمة بعد الركعات الأربع الأولى من صلاة التراويح ولم يثبت هذا عن أحدٍ من السلف فأين
اتباعهم ؟!

التنبيه الخامس :

قال الذهبي في ترجمة يحيى بن محمد بن يحى الذهلي من سير أعلام النبلاء
(12/ 288) وهو من رجال ابن ماجه :

وسمعت محمد بن صالح يقول : حضرنا آخر مجلس للاملاء عند يحيى بن محمد الشهيد
في شهر رمضان من سنة سبع وستين ومئتين، وقيل في شوال.اهـ

وهذا – إن صح – يدل على شهرة تلك المجالس عند السلف في شهر رمضان.

وجاء في سند كتاب الأمالي في آثار الصحابة لعبد الرزاق ما يلي :”
بسم الله الرحمن الرحيم

رب زدنى علما أخبرتنا المسندة الخيرة الكاتبة أم عبد الله نشوان بنت عبد
الله بن على الكنانية سماعا عليها في تاسع جماد الأول سنة 865 ه …. وذكر سند الكتاب
إلى أن قال : نا أبو عبد الله الحسين بن عبد الجبار السكرى قراءة عليه في يوم السبت
15 شهر رمضان سنة 415 ه … وأكمل السند .اهـ

وجاء في السماعات الموجود في مستخرج أبي نعيم على صحيح مسلم (3/151)
:” وكتب يوسف بن خليل بن عبد الله ، سمع جميع هذا الجزء على الشيخ الإمام العالم
الأوحد الحافظ شيخ الإسلام شمس الدين أبي الحجاج يوسف بن خليل بن عبد الدمشقي مد الله
تعالى في عمره سماعه فيه بخطه بقراءة ……..وذكر إسناده إلى أبي نعيم أن قال : 

 وذلك
في يوم الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان سنة سبع وأربعين وستمائة بدار المسمع بحلب حماها
الله تعالى والسماع الصحيح والحمد لله على كل حال الحمد لله وحده”.

وجاء في سند كتاب فضائل الصحابة للدارقطني : “خْبَرَنَا الشَّيْخُ
الصَّالِحُ أَبُو بَكْرٍ مِسْمَارُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعُوَيْسِ النَّيَّارُ
الْمُقْرِئُ الْبَغْدَادِيُّ ….وذكر السند إلى أن قال :

قال : أنا أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الدارقطني الحافظ ، قراءة
عليه وأنا أسمع يوم الثلاثاء لست بقين من شهر رمضان من سنة خمس وثمانين وثلثمائة”.اهـ

أقول : فأملى الدارقطني هذا الكتاب في شهر رمضان .

وجاء في أمالي ابن سمعون لأبي الحسن البغدادي المتوفى عام 387 هـ: وأول
المجلس الخامس عشر : حدثنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن سمعون إملاء يوم الثلاثاء النصف
من شهر رمضان سنة سبع وثمانين وثلاث مئة.اهـ

وجاء في أمالي المحاملي (1/ 271) : مجلس يوم الأحد لأحد عشر بقين من شهر
رمضان سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.اهـ

وجاء في العمدة لفخر النساء شهدة بنت أحمد بن الفرج الإبري :

الشيخ الثالث والعشرون : [102] أخبرنا الشيخ الصالح والدي أبو نصر أحمد
بن الفرج بن عمر الدينوري رحمه الله بقراءة البونارتي في الحادي والعشرين من شهر رمضان
سنة تسعين وأربعمائة .اهـ

وجاء في سند كتاب الغيلانيات لأبي بكر الشافعي : [1] أخبرنا أبو محمد الحسن
بن عبد الملك بن محمد بن يوسف قراءة عليه فأقر به ، وأنا أسمع وهو يسمع وذلك في جمادى
الأولى من سنة أربع وتسعين وأربعمائة قال : أنبأ أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم
بن غيلان قراءة عليه في شهر ربيع الأول من سنة خمس وثلاثين وأربعمائة قال : ثنا أبو
بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله البزاز المعروف بالشافعي إملاء في يوم
الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وهو أول سماعي منه.اهـ

أقول:فأملى كتابه هذا في شهر رمضان .

وجاء في كتاب المجالس العشرة للحسن الخلال [ 30 ] : حدثنا الحسن بن محمد
الشيخ الحافظ إملاء في يوم الجمعة بعد الصلاة لست خلون من شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين
وأربعمائة بجامع المنصور .. وأكمل السند .اهـ

والمتأمل في سماعات أهل الحديث يجد كثيراً من هذا ، وقد وقعت هذه السماعات
في تلك العصور ولم ينكرها أحد فتأمل .

وأما حديث مدارسة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل القرآن في رمضان فليس معناه الحض على ترك ما يعين على فهم القرآن أو غيرها من القربات والنبي صلى الله عليه وسلم هو المفسر الأول ، للقرآن الكريم  وعامة كتب العلم السلفية إنما المراد منها تحقيق فهم القرآن والسنة، وهذا الحديث حجة عليهم إذ أن شبه شيء بمدارسة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل القرآن أن تكون هناك مدارسة بين اثنين أو أكثر وهذه حقيقة مجالس العلم التي ينفر عليها ، وليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك مجالسة أصحابه وتعليمهم في شهر رمضان بل خرج إليهم في حديث معروف وحدثهم عن أمر ليلة القدر وتلاحي الرجلين

التنبيه السادس:

اشتهر عند أهل التواريخ والسير أن غزوة بدر وفتح مكة كانا في شهر رمضان
، فإذا كان الجهاد البدني مشروعاً في شهر رمضان وليس من الأشهر الحرم فكذلك الجهاد
العلمي ، وهو أجل من جهاد السيف .

قال ابن القيم في الفروسية [ ص157 ] : فالفروسية فروسيتان فروسية العلم
والبيان وفروسية الرمي والطعان، ولما كان أصحاب النبي أكمل الخلق في الفروسيتين فتحوا
القلوب بالحجة والبرهان والبلاد بالسيف والسنان .

وما الناس إلا هؤلاء الفريقان ومن عداهما فإن لم يكن ردءا وعونا لهما فهو
كل على نوع الإنسان .

وقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله بجدال الكفار والمنافقين وجلاد أعدائه
المشاقين والمحاربين فعلم الجدال والجلاد من أهم العلوم وأنفعها للعباد في المعاش والمعاد
ولا يعدل مداد العلماء إلا دم الشهداء والرفعة وعلو المنزلة في الدارين إنما هي لهاتين
الطائفتين وسائر الناس رعية لهما منقادون لرؤسائهما.اهـ

وقال في مفتاح دار السعادة (1/ 80) : وقد اختلف في تفضيل مداد العلماء
على دم الشهداء وعكسه وذكر لكل قول وجوه من التراجيح والادلة ونفس هذا النزاع دليل
على تفضيل العلم ومرتبته .

فإن الحاكم في هذه المسئلة هو العلم فيه واليه وعنده يقع التحاكم والتخاصم
والمفضل منهما من حكم له بالفضل .فإن قيل : فكيف يقبل حكمه لنفسه قيل وهذا ايضا دليل
على تفضيله وعلو مرتبته وشرفه .

فإن الحاكم إنما لم يسغ ان يحكم لنفسه لاجل مظنة التهمة والعلم تلحقه تهمة
في حكمه لنفسه فإنه إذا حكم حكم بما تشهد العقول والنظر بصحته وتتلقاه بالقبول ويستحيل
حكمه لتهمة فإنه إذا حكم بها انعزل عن مرتبته وانحط عن درجته فهو الشاهد المزكي العدل
والحاكم الذي لا يجور ولا يعزل.اهـ

ولا يعزب عن ذهنك أن الرد على أهل البدع أولى من الرد على الكفار .

قال  ابن حجر في شرح البخاري (12/ 34) : “قال ابن هبيرة وفي الحديث
أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين والحكمة فيه أن في قتالهم حفظ راس مال الاسلام
وفي قتال أهل الشرك طلب الربح وحفظ رأس المال أولى”.اهـ

وبهذا يدفع قول من كره الكلام في أهل البدع في شهر رمضان .

ويا ليت شعري إذا كان لا ينكر على من أفضى إلى امرأته في ليلة الصيام لقوله
تعالى :{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، مع كون
هذا الأمر مباحاً في أصله ، وقاصر النفع على الرجل وامرأته ، فكيف ينكر على من اشتغل
بما هو دائرٌ بين الفرض الكفائي ، والفرض العيني ، ونفعه متعدٍ للمسلمين ، ويتأكد في
هذه الأعصار التي كثرت فيها الفتن والبدع .

قال الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث [ ص225] : [ 179 ] : أخبرني عبد
الغفار بن أبي الطيب المؤدب ، قال : حدثنا عمر بن أحمد بن عثمان ، قال : حدثنا محمد
بن أحمد بن أبي الثلج ، قال : حدثني جدي ، قال : سألت أحمد بن حنبل ، قلت : يا أبا
عبد الله أيهما أحب إليك : الرجل يكتب الحديث أو يصوم ويصلي ؟

قال : يكتب الحديث .

قلت : فمن أين فضلت كتاب الحديث على الصوم والصلاة ؟

قال : لئلا يقول قائل : إني رأيت قوما على شيء فاتبعتهم .

قال الخطيب قلت : طلب الحديث في هذا الزمان أفضل من سائر أنواع التطوع
لأجل دروس السنن وخمولها ، وظهور البدع واستعلاء أهلها.اهـ

أقول : هذا في زمن الخطيب فكيف في زماننا ؟

ولا يأتي زمان إلا والذي بعد شرٌ منه كما ورد في الخبر .

وقال معمر في جامعه [ 1092 ] : عن الزهري قال :

ما عُبد الله بمثل الفقه .

والزهري أحد المنقول عنهم ترك إقراء الحديث في رمضان فلا تنس ذلك .

وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 178):

والكلام في العلم أفضل من الأعمال ، وهو يجري عندهم مجرى الذكر والتلاوة
إذا أريد به نفي الجهل ووجه الله تعالى والوقوف على حقيقة المعاني.اهـ

والناس في زمن ابن عبد البر لا شك أنهم أعلم بالحديث وآثار الصحابة والعربية
من أهل عصرنا ، ومع ذلك قيل هذا ، فما يقال في أهل أعصرنا ؟

التنبيه الأخير :

قال البيهقي في شعب الإيمان : فصل في الاستكثار من القراءة في شهر رمضان
و ذلك لأنه شهر القرآن.اهـ

أقول : ولا أعلم أحداً سبقه إلى تسمية رمضان ب ( شهر القرآن ) .

فإن هذه التسمية لم تكن مشتهرةً عند السلف بل لم تكن موجودةً أصلاً ، وما
رأيت أحداً تابعه عليها فلا تجد لهذه التسمية ذكراً في كلام شيخ الإسلام ولا تلميذه
ابن القيم ولا ابن رجب ولا أئمة الدعوة النجدية ، ولكنها اشتهرت
بين المعاصرين والله أعلم.

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم