قال الهروي في ذم الكلام 1293 – سمعت عبد الصمد بن محمد [بن محمد] بن صالح
يقول: سمعت أبي يقول:
((أنكروا على ابن حبان قوله: ((النبوة العلم والعمل)). فحكموا عليه بالزندقة،
وهجر، وكتب فيه إلى الخليفة؛ فكتب بقتله)).
أقول : هذا الخبر صحته نظر عندي ، وذلك أن عبد الصمد هذا بحثت له عن ترجمة
طويلاً فلم ، وكذلك أبوه وإنما يروون أخبار أبي حاتم ابن حبان
وإن صح الخبر فسبب إنكارهم عليه ظنهم أن كلمته هذه يريد بها أن النبوة
مكتسبة بمعنى أنها ليست اصطفاء بل يكتسبها المرء اكتساباً ، وهذا قول الفلاسفة وفرعوا
عليه عدم انقطاع النبوة بل يستطيع المرء اكتسابها لهذا جاء التكفير والحكم بالزندقة
وقال الهروي في ذم الكلام 1292 – وسألت يحيى بن عمار عن أبي حاتم بن حبان
البستي؛ قلت:
((رأيته قال: كيف لم أره ونحن أخرجناه من سجستان؟! كان له علم كثير، ولم
يكن له كبير دين، قدم علينا، فأنكر الحد لله؛ فأخرجناه من سجستان)).
قد أنكر الذهبي وابن حجر على يحيى بن عمار السجزي هذا الامتحان بمسألة
( الحد ) ، والواقع أن الحق معه ولا يتطرق إليه النقد ، والنقد إنما يتطرق إليهم بل ابن حجر صرح بنفي الحد وهذا لا يستغرب منه فهو على عقيدة الجهمية في العلو
وذلك أن ( الحد ) ليس صفةً مستقلة وإنما هو لفظ توضيحي كقولهم ( غير مخلوق
) و ( بائن من خلقه ) ألفاظ يستخدمها السلف لمباينة الجهمية
فالجهمي لو قال ( الله فوق العرش ) فقد يريد أنه فوق العرش بقدرته وعلمه
فليزمونه باستخدام لفظ يفيد اعتقاد أهل السنة قولاً واحداً كقوله ( بائن من خلقه )
و ( بحد ) أي أنه غير ممتزج بخلقه كما تزعم الجهمية ، وقد ثبت في النصوص أن الله عز
وجل له حجاب لو كشف عنه لأحرقت سبحات وجهه ما نتهى إليه بصره
ولهذا تتابع السلف على إثبات الحد بهذا المعنى ، ومن أنكر عليهم لم يفهم
مقصودهم
قال حرب الكرماني في عقيدته التي نقل فيها إجماع أهل السنة في عصره
:” وللعرش حملة يحملونه، وله حدٌّ الله أعلم بحده”
وقال حرب الكرماني في مسائله (3/1111) :” سألتُ إسحاق بن إبراهيم
قلت: قول الله تبارك وتعالى: {مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا
خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} كيف تقول فيه؟ قال: حيث ما كنت هو أقرب إليك من
حبل الوريد، وهو بائن من خلقه.
قلت لإسحاق: العرش بحد؟ قال: نعم بحد، وذكر عن ابن المبارك قال: هو على
عرشه بئن من خلقه بحد”
فهذا إسحاق راهوية وابن المبارك يثبتان الحد ، وقد أقرهم على ذلك الإمام
أحمد ابن حنبل
قال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية (1/428) : ” قال الخلال في
كتاب السنة أخبرنا أبو بكر المروذي قال سمعت أبا عبدالله قيل له روى عن علي بن الحسن
بن شقيق عن ابن المبارك أنه قيل له كيف نعرف الله عز و جل قال على ىالعرش بحد قال قد
بلغني ذلك عنه وأعجبه ثم قال أبو عبدالله هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام
ثم قال وجاء ربك والملك صفا صفا قال الخلال أخبرنا الحسن بن صالح العطار حدثنا هارون
بن يعقوب الهاشمي سمعت أبي يعقوب بن العباس قال كنا عند أبي عبدالله قال فسألناه عن
قول ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد
هكذا على العرش استوى بحد فقلنا له ما معنى قول ابن المبارك بحد قال لا أعرفه ولكن
لهذا شواهد من القرآن في خمسة مواضع إليه يصعد الكلم الطيب أأمنتم من في السماء تعرج
الملائكة والروح إليه وهو على العرش وعلمه مع كل شيء قال الخلال وأخبرنا محمد بن علي
الوراق حدثنا أبو بكر الأثرم حدثنا محمد بن إبراهيم القيسي قال قلت لأحمد بن حنبل يحكى
عن ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد
هكذا هو عندنا”
فتأمل كيف استدل الإمام أحمد بآية المجيء على إثبات الحد مما يدل على أن
معنى الحد عندهم أن الله ليس ممتزجاً بخلقه وهذا معنى قولهم ( بائن ) الذي ينقله الذهبي
نفسه ولا ينكره
قال الذهبي في كتاب العرش :” 211- وقال حدثنا علي بن الحسن بن يزيد
السلمي، سمعت أبي يقول: سمعت هشام بن عبد الله الرازي، يقول: حُبس رجل في التجهم، فتاب،
فجيء به إلى هشام ليمتحنه- فقال له: “أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟. قال:
لا أدري ما بائن من خلقه. فقال: رُدَّه فإنه لم يتب بعد”
أقول : فامتحان هشام بن عبيد الله ذاك الرجل بلفظ ( بائن ) من جنس امتحان
يحيى بن عمار لابن حبان بلفظ ( الحد )
قال الدارمي في الرد على المريسي :” وَادَّعَى الْمُعَارِضُ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ حَدٌّ وَلَا غَايَةٌ وَلَا نِهَايَةٌ. وَهَذَا هُوَ1 الْأَصْلُ الَّذِي بنى عَلَيْهِ جهم ضَلَالَاتِهِ وَاشْتَقَّ مِنْهَا أُغْلُوطَاتِهِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ سَبَقَ جَهْمًا إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ”
وذلك أن نفي الحد يعني أن الله في كل مكان ، أو ليس في مكان وكلاهما عقيدة الجهمية ، ومعنى الحد وارد في أخبار الحجاب بين الله عز وجل وخلقه ، واللفظ الذي انتقده الدارمي على المريسي والثلجي هو عين لفظ الطحاوي في عقيدته ( تعالى عن الحدود والغايات ) فتنبه
ثم إن من قرأ صحيح ابن حبان علم أن ابن حبان على غير عقيدة السلف في الصفات
، فيكون قد صدقت فيه فراسة يحيى بن عمار
وقد عد شيخ الإسلام ابن تيمية ابن حبان في نفاة الصفات ، ونص على تأثره
بشبهات الجهمية والمعتزلة بل وتقليده لهم
قال شيخ الإسلام في درء التعارض (7/33) :” فإن قيل قلت إن أكثر أئمة
النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول واقوال السلف في
تفسير القرآن وأصول الدين وما بلغوه عن الرسول ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك
قيل هؤلاء أنواع نوع ليس لهم خبرة بالعقليات بل هم يأخذون ما قاله النفاة
عن الحكم والدليل ويعتقدونها براهين قطعية وليس لهم قوة على الاستقلال بها بل هم في
الحقيقة مقلدون فيها وقد اعتقد أقوال أولئك فجميع ما يسمعونه من القرآن والحديث
وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك بل إما أن يظنوه موافقا لهم
وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه
وهذه حال مثل أبي حاتم البستي وأبي سعد السمان المعتزلي ومثل أبي ذر الهروي
وأبي بكر البيهقي والقاضي عياض وأبي الفرج ابن الجوزي وأبي الحسن علي بن المفضل المقدسي
وأمثالهم “
وابن حبان هو أبو حاتم البستي
غير ان ابن حبان ما كان أشعرياً بل كان شديداً على مرجئة الفقهاء فكيف
بمرجئة الأشاعرة ، ومن أراد أن يعلم صدق قولي فلينظر ترجمة شداد بن حكيم البلخي في
المجروحين ، وكذا ترجمة أبي حنيفة
وقد زعم عبد الفتاح أبو غدة في تعليقه الانتقاء لابن عبد البر ، أن كلام
ابن حبان على أبي حنيفة لا يقوله إلا المجانين
وهذا من سفه أبي غدة
وإلا فالعقيلي وعبد الله بن أحمد ويعقوب بن سفيان والخطيب البغدادي وابن
الجوزي كلهم مجانين لأجل إيراد كلام السلف في أبي حنيفة
والسلف أنفسهم عند أبي غدة مجانين ومتعصبين كسفيان الثوري وابن عيينة ومالك
بن أنس وأحمد ابن حنبل والأوزاعي وابن المبارك وغيرهم ممن تكلم في أبي حنيفة
وعبد الفتاح أبو غدة يريد إسقاط الأئمة الثقات الذين رووا لنا سنة النبي
صلى الله عليه وسلم ، وعرفوا بالزهد والورع والديانة ، تعصباً لإمامه الذي ليس حديث
واحد في السنن والصحاح والمسانيد المشهورة
وفعل يحيى بن عمار هذا يدل على أنهم ما كان عندهم موازنات و لا ( حمل مجمل
على مفصل ) ، وقول الذهبي في أن يحيى بن عمار كان عنده شدة متجاوزة للحد فيه نظر فقد
علمت قوة مأخذه فيما أخذه الذهبي عليه ، ومع ذلك ما حكم عليه الذهبي أنه ( على منهج
الخوارج في التجريح )
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم