فقد سبق لي أن كتبت بحثاُ في قوله تعالى ( طه ) ، وأنه لا يصح عن أحدٍ
من السلف أنه قال ( طه ) اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ، بل هذا قولٌ محدث
لم يعرض له ابن أبي حاتم والطبري وغيرهم أصلاً ، وإنما ذكره بعض المتأخرين ، فالواجب
هجر هذا القول بل والإنكار على من يقول به.
قال شيخ الإسلام في مقدمة التفسير :” وفي الجملة من عدل عن مذاهب
الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك بل مبتدعا، وإن كان
مجتهداً مغفوراً له خطؤه”.
وهنا أبحث في قوله تعالى ( طه ) من قال من السلف أن (طه ) من الحروف المقطعة
في أوائل السور ويتعلق بذلك عدة فوائد.
الفائدة الأولى:
أن جمهور مفسري السلف على أن ( طه ) بمعنى ( يا رجل ).
قال ابن أبي حاتم في تفسيره [ 14241]: حَدَّثَنَا الحسين بن مُحَمَّد بن شيبة الواسطي،
ثنا أبو أحمد يَعْنِي الزبيري، انبأنا إسرائيل، عَنْ سالم الأفطسي، ثنا سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ، ثنا ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ{ طه}، يا رجل.
هكذا روي، عَنْ مُجَاهِدٍ، وعكرمة،
وسعيد بن جبير، ومحمد بن كَعْبٍ، وأبي مالك عطيه العوفي، والحسن، قَتَادَة، الضحاك،
السُّدِّيِّ، وابن أبزى أنهم قالوا{ طه}، بمعنى يا رجل.
أقول : وقد خولف إسرائيل .
قال ابن أبي شيبة في [ 30596]:
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، عَن سُفْيَانَ
، عَن سَالِمٍ ، عَن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، قَالَ : { طه}، بِالنَّبَطِيَّةِ : ايطه يَا
رَجُلُ.
وهذا أصح.
وقال الطبري في تفسيره (16/5) : حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا
أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: { طه}،: بِالنَّبَطِيَّةِ: يَا رَجُلُ
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه،
عن ابن عباس، قوله {طه مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} فإن قومه قالوا: لقد شقي هذا
الرجل بربه.
فأنزل الله تعالى ذكره { طه}، يعني: يا رجل {مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لِتَشْقَى} .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني
عبد الله بن مسلم، أو يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير أنه قال: { طه}، يا رجل بالسريانية.
قال ابن جريج: وأخبرني زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن
عباس، بذلك أيضا.
قال ابن جُرَيج، وقال مجاهد، ذلك أيضا.
حدثنا عمران بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: ثنا عمارة
عن عكرمة، في قوله { طه}، قال: يا رجل، كلمه بالنبطية.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد الله، عن عكرمة،
في قوله { طه}، قال: بالنبطية: يا إنسان.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، عن قرة بن خالد، عن الضحاك، في
قوله { طه}، قال: يا رجل بالنبطية.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حُصين، عن
عكرمة في قوله { طه}، قال: يا رجل.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله { طه}، قال: يا رجل، وهي بالسريانية.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن
في قوله { طه}، قالا يا رجل.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد، يعني ابن سليمان،
قال: سمعت الضحاك يقول في قوله { طه}، قال: يا رجل.
وهنا وقفة مهمة : وهي أن هذا التفسير يستبعده الكثير من المعاصرين اليوم
، وهذا أمرٌ لا ينبغي فإن السلف أعلم منا بكل ما يحتاجه مفسر القرآن ، هذا ما من الله
عز وجل به عليهم من علو الإسناد والاتصال بالصحابة الكرام الذين أخذوا عن النبي صلى
الله عليه وسلم.
فالأمر كما يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال :” فارض لنفسك ما رضي
به القوم لأنفسهم ، فإنهم عن علم وقفوا ، وببصر نافذ قد كفوا ، ولهم كانوا على كشف
الأمور أقوى وبفضل لو كان فيه أجري فلئن قلتم : أمر حدث بعدهم ، ما أحدثه بعدهم إلا
من اتبع غير سنتهم ، ورغب بنفسه عنهم ، إنهم لهم السابقون ، فقد تكلموا منه بما يكفي
، ووصفوا منه ما يشفي ، فما دونهم مقصر ، وما فوقهم مخسر ، لقد قصر عنهم آخرون فضلوا
وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم” رواه الآجري في الشريعة
والواجب التأدب معهم عند المخالفة خصوصاً إذا القول لجمهورهم ، فلا يأتي
أحد لقول قال به الجمهور من التابعين في تفسير آية ويقول ( هذا بعيد ) ، ( وهذا يليق
بأسلوب القرآن ) .
فإن المرء منا إذا أراد مخالفة عالم معاصرٍ في مسألة فقهية مشهورة ، أو
تصحيح حديث أو تضعيفه ، بدأ بالمعاذير وتلطف باللفظ قدر المستطاع ، فما بال أقوام هم
أجرأ على السلف منهم على العلماء المعاصرين .
الفائدة الثانية :
أن الذي روي عنه القول بأن { طه}، من فواتح السور ( يعني المقطعة
) هو مجاهد وحده ولم أجد إسناداً لقوله هذا فإنه مذكور في تفسير ابن أبي حاتم
14248 ، وهو مما سقط إسناده من المطبوع لأنه مستدرك من الدر المنثور .
ثم وجدت إسناده في تفسير الثوري.
قال سفيان 594- عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ فواتح السور.
أقول : خصيف هذا ضعيف قال الحافظ في التقريب :” صدوق سىء الحفظ ،
خلط بأخرة ، و رمى بالإرجاء”.
ولو قرأت ترجمته لوجدت حاله أنزل من هذه.
ومجاهد نفسه روي عنه موافقة الجمهور على القول بأن ( طه ) معناها ( يا
رجل ) كما تقدم في تفسير الطبري من رواية ابن جريج عنه.
فإن قلت : أن ابن جريج مدلس .
قلت لك : بل الأمر أكبر من هذا هو لم يسمع التفسير من مجاهد جزماً إلى
أن روايته عنه في التفسير ثابتة إذ أننا عرفنا الواسطة.
قال ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار ص231 :” القاسم بن أبى بزة
أبو عاصم وقد قيل أبو عبد الله واسم أبى بزة يسار وكان من فارس أسلم على يدي السائب
بن صيفي فأقام بمكة وبها ولد له ابنه القاسم وكان القاسم من المتقنين وقدماء مشايخ
المكين مات سنة خمس وعشرين ومائة ما سمع التفسير عن مجاهد أحد غير القاسم بن أبى بزة
نظر الحكم بن عتيبة وليث بن أبى سليم وابن أبى نجيح وابن جريج وابن عيينة في كتاب القاسم
ونسخوه ثم دلسوه عن مجاهد”.
فروايته أصح من رواية خصيف
الفائدة الثالثة :
أن ابن جرير الطبري قال في تفسيره
(18/ 266) :” وقال آخرون: هو اسم من أسماء الله، وقسم أقسم الله به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس،
في قوله(طَهَ) قال: فإنه قسم أقسم الله به، وهو اسم من أسماء الله.
وقال آخرون: هو حروف هجاء.
وقال آخرون: هو حروف مقطعة يدلّ كلّ حرف منها على معنى، واختلفوا في ذلك
اختلافهم في الم.
وقد ذكرنا ذلك في مواضعه، وبيَّنا ذلك بشواهده.
والذي هو أولى بالصواب عندي من الأقوال فيه قول من قال: معناه: يا رجل،
لأنها كلمة معروفة في عكَّ فيما بلغني، وأن معناها فيهم: يا رجل، أنشدت لمتمم بن نويرة:
هَتَفْتُ بِطَهَ فِي القِتالِ فَلَمْ يُجِبْ… فَخِفْتُ عَلَيْهِ أنْ
يَكونَ مُوَائِلا
وقال آخر:
إنَّ السَّفاهَةَ طَهَ مِنْ خَلائِقكُمْ… لا بارَكَ اللهُ فِي القَوْمِ
المَلاعِينِ
فإذا كان ذلك معروفا فيهم على ما ذكرنا، فالواجب أن يوجه تأويله إلى المعروف
فيهم من معناه، ولا سيما إذا وافق ذلك تأويل أهل العلم من الصحابة والتابعين”.
أقول : فالطبري يرجح تفسير { طه}، ب ( يا رجل ) ، ويحتج لذلك
بالعربية ويوجب المصير إلى هذا القول لأنه تفسير الصحابة والتابعين ، وهو مطابق للسان
العرب
فالقول بأن { طه}، معناها ( يا رجل ) هو قول الجمهور من مفسري السلف واختاره ابن جرير ولم
يذكر البخاري غيره لما عرض في صحيحه لتفسير سورة (طه ) ، ومن روي عنه خلافه لم أجد
إسناداً يثبت لقوله هذا ، وقد روي عنه بسندٍ ثابت موافقة هذا القول.
وبقي هنا تحقيق ما ورد عن عن ابن عباس في هذا.
قال البيهقي في الأسماء والصفات 163 – أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق ،
أنا أبو الحسن الطرائفي ، ثنا عثمان بن سعيد ، حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية
بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى
: كهيعص وطه ، وطس ، وطسم ، ويس ، وص ، وحم عسق ، وق ، ونحو
ذلك ، قسم أقسمه الله تعالى ، وهي من أسماء الله عز وجل.
أقول : هذه هي صحيفة علي بن أبي طلحة المعروفة عن ابن عباس ، والخلاف فيها
كبير وإنما نفقت عند الناس مع علمهم بأن علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس بتجويز
أن يكون أخذ التفسير من عكرمة أو مجاهد عن ابن عباس.
ولكننا نرى هنا أن مجاهداً وعكرمة يقولان بخلاف هذا الذي يرويه عن ابن
عباس ، ومعهما سعيد بن جبير ، فيبعد أن يكون هذا محفوظاً عن ابن عباس ويخالفه مشاهير
أصحابه.
ومن أخذ بهذا الأثر يلزمه أن يأخذ به كاملاً فيقول بأن ( طه ) :”
قسم أقسمه الله تعالى ، وهي من أسماء الله عز وجل” ، وأما أن يأخذ ببعض الأثر
فيقول :” طة من الحروف المقطعة ” ، ثم يترك بقيته ويقول :” ولا نعرف
معناها ” فهذا تحكم واجتزاء.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم