هل صحت قصة ( اعتزلنا واصل ) عن الحسن البصري ؟

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فمن القصص المشهورة ، بل والمشهورة جداً قصة اعتزال واصل بن عطاء للحسن
البصري بعد قوله بالمنزلة بين منزلتين ، وقول الحسن ( اعتزلنا واصل ) أو ( اعتزل عنا
واصل )، وقد بلغ من شهرة هذه القصة أن بعض الأفاضل شرع يشرحها ويذكر فوائدها

وقد من الله عز وجل علي بالشروع في جمع آثار الحسن البصري في الزهد والرقائق
والأدب ، واقتضى ذلك مني النظر في عدد من تراجمه في الكتب المتقدمة ( خصوصاً المسند
منها كالطبقات والحلية ) فلفت نظري أن هذه القصة لا وجود لها في مشاهير الكتب التي
اعتنت بذكر أخبار الحسن البصري

فقررت ان أبحثها بشكل مستقل ، فلم أجد بعد البحث الطويل هذه القصة مسندةً
بل ولم أجدها في شيء من المصادر المعتمدة

بل ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أن الحسن هو الذي طرد واصلاً حيث قال
(5/464) :” وهو وعمرو بن عبيد رأسا الاعتزال، طرده الحسن عن مجلسه لما قال: الفاسق
لا مؤمن ولا كافر، فانضم إليه عمرو، واعتزلا حلقة الحسن، فسموا المعتزلة “

وحتى هذا الخبر لم أجد له إسناداً ، والسبب في قلة أخبار واصل في كتب التراجم
القديمة ، أنهم لم يكونوا يعتنون بمن لا رواية له وإنما يذكرون أهل البدع ويشردون بهم
، وأما عمرو بن عبيد لما كان له رواية قليلة كان أخباره أكثر وأشهر ، وهذا مسلك السلف
في التراجم فلم يكونوا يعتنون بالترجمة للملوك والشعراء والمجان ، على عادة المتأخرين
الذين يجمعون الكتب الكبيرة في التراجم يجمعون فيها تراجم الأولياء والأشقياء ، حتى
أن بعضهم ترجم لجنكيز خان !

ولا شك أن مسلك السلف هو المتعين ، إذ أن العمر القصير والتوسع في تراجم
الشعراء والملوك وذكر محاسن أهل البدع ، لو سلمنا جوازه فهو ملهي عما هو خيرٌ منه من
النظر في علوم الكتاب والسنة وسير الصالحين

كيف وفي هذا المسلك ما فيه فإن تراجم الملوك والمجان والشعراء فيها كثيرٌ
مما يجب كتمه ويعد ذكره من إشاعة الفاحشة ، وتعديد محاسن أهل البدع والتوسع في ذلك
له مضاره التي لا تخفى

وعوداً على بحثنا أقدم من رأيته ذكر القصة وبلا إسناد الشهرستاني

حيث قال في الملل والنحل (1/52) :” دخل رجل على الحسن البصري، فقال:
يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر
يخرج به عن الملة وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم
لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، فلا يضر مع الإيمان
معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟
ففكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن
مطلقاً ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل
إلى إسطوانة من إسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن:
اعْتَزَلَنا واصل، فسمي هو وأصحابه المعتزلة”.

والقصة فيها نكارة فالمرجئة القائلون (فلا يضر مع الإيمان معصية كما لا
ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة ) إن أراد بذلك أنه لا يضره مطلقاً لا في الدنيا
ولا في الآخرة فهذا قول الغلاة من المرجئة وهؤلاء لم يدركهم الحسن ، وإن أراد ( لا
يضر مع الإيمان معصية ) بمعنى لا ينقصه فهذا قول مرجئة الفقهاء وعامة المرجئة

قد خولف الشهرستاني في سبب تلقيبهم بالمعتزلة

فقال أبو الحسين الملطي المتوفى سنة 377 ه في ” التنبيه والرد
” وهو أقدم مصدر يبين وجه تلقيبهم بالمعتزلة: وهم سموا أنفسهم معتزلة، وذلك عندما
بايع الحسن بن علي عليه السلام معاوية وسلم إليه الامر، اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع
الناس – وكانوا من أصحاب علي – ولزموا منازلهم ومساجدهم، وقالوا: نشتغل بالعلم والعبادة،
فسموا بذلك معتزلة”

وهذا فيه نظر أيضاً فإن المعتزلة إنما ظهروا بعد انقراض عصر الصحابة

ولعل قائلاً يقول : ما داعي هذا التشدد في خبر مروي في السيرة ، وقد كان
من هدي العلماء التسامح في المقطوعات والسير

فيقال : هذا التسامح لا يعني قبول قصة لا إسناد لها ، ثم تصير هذه القصة
أشهر من الثابت وما فائدة كل تلك الأسانيد المذكورة في الكتب القديمة إذا كنا سنعامل
المسند وغير المسند معاملةً واحدة ، وما فائدة علم الجرح والتعديل إذا كنا سنعامل الثقة
والكذاب معاملةً واحدة

هذا وأنا لا أجزم أن القصة لا إسناد لها لكن بحدود بحثي لم أجد لها إسناداً

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم