فهذه مسألة تذكر في كتب الأصول وهي ( هل ثبوت الثواب متوقف على ورود الشرع
؟ ) ومعنى هذه المسألة أن المرء لا يثاب على عملٍ صالح عمله إلا إذا ورد عنده دليل
من الشرع على صحة هذا الفعل
ومعنى هذا أن أفعال أهل الفترة لا يثابون عليها ، وإن كانت صالحةً وأرادوا
بها وجه الله
ومعناه أن الكافر الذي لم يعرف الإسلام ، وعمل بعض الأعمال الصالحة التي
ثبت صلاحها بالفطرة وأراد بها وجه الله أنه لا يثاب عليها
والقول بأنهم لا يثابون إلا بعد ورود الشرع يستقيم على أصول نفاة التحسين
والتقبيح العقليين
والحق أن هذا القول يرد عليه أمور
أولها : أن المتوقف على ورود الشرع في النصوص هو العذاب كما قال تعالى
( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)
ثانيها : أنه قد ثبت في بعض أهل الفترة أنهم بشروا بالجنة مثل زيد بن عمرو
بن نفيل
وفي السيرة لابن هشام (1/224) : عن محمد بن إسحاق، حدثني هشام بن عروة،
عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر؛ قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو ابن نفيل مسنداً ظهره إلى
الكعبة؛ يقول: يامعشر قريش! والذي نفس زيد بيده؛ ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم
غيري. ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكنني لا أعلمه، ثم
يسجد على راحته”
فهذا أثابه الله على التوحيد وعلى أعماله الصالحة ، لأنه سار على التوحيد
وقد كان من أهل الفترة ، واختار الحنيفية السمحة ، ولم يأته نبي
ثالثها : قال مسلم في صحيحه 438- [365-214] حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ ، عَنْ دَاوُدَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ
، عَنْ مَسْرُوقٍ ، عَنْ عَائِشَةَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ
؟ قَالَ : لاَ يَنْفَعُهُ ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا : رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي
يَوْمَ الدِّينِ.
فقوله ( إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا : رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ
الدِّينِ ) ، يدل على أنه لو قالها لنفعه ذلك مع أنه من أهل الفترة فتأمل
رابعها : قال مسلم في صحيحه 238- [194-123]:
حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى
، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي يُونُسُ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ،
قَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ ، أَخْبَرَهُ
، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَأَيْتَ أُمُورًا
كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ هَلْ لِي فِيهَا مِنْ شَيْءٍ ؟ فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ
مِنْ خَيْرٍ.
وَالتَّحَنُّثُ : التَّعَبُّدُ.
أقول : فهذا نص في أن تعبداته في الجاهلية يؤجر عليها بعد أن يسلم
ولو كان لا يؤجر إلا بعد ورود الشرع لم تنفعه عباداته في الجاهلية ، وهذا
الحديث فيه الرد على نفاة التحسين والتقبيح العقليين إذ أن على قولهم لا يجوز أن يؤجر
على فعل فعله قبل ورود الشرع ، إذ أن في الجاهلية لم يكن هناك شرع يتقيد به الناس
وأما بعد ورود الشرع فلا يجوز التعبد إلا بما شرع الله عز وجل .
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم