هل العلم الشرعي (التقليدي) يوفر وقاية كافية من الإلحاد؟ (حتى لا نظلم التراث والعلماء)
مما يشيعه بعض الأخوة أن طلب العلم الشرعي بصورته ( التقليدية ) لا يشكل وقاية كافية من الإلحاد وأنه لا بد من تجديد في المناهج التعليمية وكل ذلك تأثراً بمواد متحيزة لا تخلو من تلاعب لا يجري على عاقل ، وأنا معهم تماماً في أمر التجديد هذا ولكنني أزعم أن العلم الشرعي بصورته التقليدية والذي كان فاشياً في المساجد الأعوام الماضية لا يحكمه أحد إلا ويشكل له وقاية قوية من أهم شبهات الملاحدة وذلك في عدة محاور
محور الأدلة العقلية : أقوى الأدلة التي يستخدمها المحاورون للملاحدة دليل امتناع التسلسل في المؤثرات ، وهذه الدليل مبني على أن وجود شيء حادث في الكون ( وجد بعد إن لم يوجد ) أما أن يكون جاء من اللاشيء وهذا ممتنع لأن العدم لا يفعل فالفعل فرع عن الوجود وإما أن يكون أوجد نفسه بنفسه وهذا أيضاً متناقض إذ لا وجود له قبل بدايته حتى يفعل ، فإذن ضرورة له سبب وهذا السبب إما أن يكون حادثاً وإما أن يكون قديماً لا بداية له ، فإن كان حادثاً طرحنا عليه السؤال نفسه ( ما سبب وجوده ) وهكذا نمشي في الأسباب حتى نصل إلى الأول الذي لا بداية له وبما أنه لا بداية له فلن نحتاج إلى سؤال من أين جاء ؟ ويمتنع أن تتسلسل الأسباب الحادثة إلى ما لا بداية لأن تسلسلها إلى ما لا بداية يعني أن الحدث لن يقع بمعنى لو كان هناك شرطي سيطلق رصاصة ولكنه متوقف على أمر الذي فوقه والذي فوقه متوقف على الذي فوقه إلى ما لا بداية فلن تأتي الرصاصة ولكننا نرى الرصاصة أمامنا ( وهي الكائن الحادث ) فإذن ضرورة وصل الأمر إلى رتبة لا ينتظر الأمر من فوقه إذ لا أحد فوقه وفي مثال الكون أو أي شيء مخلوق في الكون هذا الذي لا رتبة فوقه هو الأول الذي لا بداية له
هذا الدليل استخدمه السلف في ردهم على الجهمية ( امتناع التسلسل في المؤثرات ) لهذا من فهم الرد على الجهمية يفهم هذه الحجة جيداً
فالله عز وجل يقول ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ) فلو كانت (كن ) مخلوقة لاحتاجت إلى كن أخرى إلى ما لا بداية وهذا يعني أن الخلق لن يحصل ولكن كن من ذات الله وهي كلامه وهي غير مخلوقة فلا تحتاج إلى كن أخرى هذه الحجة ذكرها الخلال في السنة واللالكائي أيضاً وذكروا أن الإمام أحمد أقرها واستحسنها فمنع التسلسل في المؤثر معلوم عند السلف الكرام وهم رأس في كل حجة قوية بل استخرجوها من النصوص رضي الله عنهم
كثيرون يخلطون بين منع التسلسل في المؤثرات وتجويز التسلسل في الحوادث ( وهذا يفعله عدد من الفيزيائيين المتأثرين بالنزعة العلموية )
وهما شيئان مختلفان بل يلتقيان تماماً فمنع التسلسل في المؤثرات هو منع تسلسل في الفاعلين وتجويز التسلسل في الحوادث هو تجويز تسلسل في الأفعال
فكل فعل لله عز وجل قبله فعل قبله فعل إلى ما لا بداية وكل فعل له بداية ونهاية وهذا كاف في كون قانون السببية ينطبق عليه والمؤثر هنا هو الله عز وجل أو نقول الفعال لما يريد سبحانه
فكلاهما إثبات لقدرة الله عز وجل فمنع التسلسل في المؤثرات إثبات لكمال قيومته وحياته وإثبات التسلسل في القدم والمستقبل ( كما في أفعال أهل الجنة ) إثبات لكمال قدرته وأنه لم يكن معطلاً عن الفعل ثم فعل
ولهذا قول بعض الجهلة ( العلم سيكتشف سبب وجود الكون ) يقال له العلم إما أن يكتشف سبباً حادثاً وبالتالي سنبحث له على سبب وإما أن يكون قديماً ( أولاً ) فاعلاً مختاراً وهو الله عز وجل وأما وجود شيء قديم مادي وليس إلهاً يفعل بمشيئة فهو ممتنع فإن قلت قديم ويفعل بمشيئة فهذا هو الله وإن قلت أنه يفعل بلا مشيئة كما يتولد الشعاع عن الشمس فهذا يقتضي أن يكون العالم مقارناً له قديماً مثله وهذا خلاف المشاهد وإما أن يكون أثر عليه شيء خارجي جعله يفعل بعد جمود وهذا هو الخالق ( لهذا ثبوت قدم شيء من العالم لا ينفي وجود الخالق كما يظن الملاحدة وكثير من المؤمنين )
والعلم دائماً يعجز في بحث البدايات بداية الحياة وبداية الكون وبداية اللغة والعلة أنه يفسر كل شيء بالمادة ويفسر علاقة الأشياء بعضها ببعض وهذا فرع عن وجودها وأما قبل وجودها فالحصول على تفسير مادي ممتنع ، وسؤال الجهلة والأغبياء ( من خلق الله ) هو سؤال بمعنى ( ما هي بداية الذي لا بداية له ) أو مثال الشرطي ( من الرتبة الذي فوق من لا رتبة فوقه يأمره ) ولهذا كان عبد الله بن عباس يرشد من يأتيه هذا السؤال إلى قراءة ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن ) تأمل ( هو الأول ) بهذا الاسم الإجابة على الشبهة من أصلها وهذه عبقرية فذة من ابن عباس غفل عنها عامة المتأخرين ومن مثل ابن عم رسول الله
=
محور الإلحاد العاطفي في معضلة الشر : بعض من كتب من المعاصرين في أمر معضلة الشر جمع فأوعى من نقولات ابن تيمية وابن القيم وقد تعاملا مع هذه القضية ولا زلت أذكر في درس القواعد الفقهية قبل 15 عاماً أن الشيخ فاجأنا وقال كل خلق لله فيه خير وذكر لنا أن ابن القيم قال حتى خلق إبليس والكفار فيه حكمة لأن وجودهم تحصل المجاهدة والدعوة وتظهر آثار أسماء الله الحسنى مثل ( النصير ) وحتى اسم الغفور واسم الرحيم إذا ما تاب الكفار وصار يسرد في الحكم من ذلك ونحن نتعجب وحتى لما درسنا صفة الصلاة كان دعاء ( والشر ليس إليك ) في شرحه يقول العلماء شيئاً من هذا المعنى أن الله عز وجل له في كل شيء حكمة ولا يخلق الشر المحض
محور الإلحاد العاطفي عند انتكاس القدوات : من يدرس ( من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ) ( وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر ) وحديث ( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ) و ( الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك ) وغير ذلك في هذا الباب لا يمكن أن يكون الدين مختزلاً في شخص أو مجموعة إذا خاب ظنه بهم ترك الدين بالكلية
محور دلائل النبوة : هذا أهم المحاور وهو يشمل الرد على الربوبيين والنصارى والملاحدة وهذا باب إنما يجيد فيه العارف بالشريعة وقد كتب العلماء الكثير من الكتب في دلائل النبوة فعلى سبيل المثال البشارات التي عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في كتب أهل الكتاب باب طرقه علماء المسلمين على مر العصور وكتب شيخ الإسلام في ذلك فصولاً نفيسة في الجواب الصحيح وتلميذه ابن القيم في هداية الحيارى ، وكذلك باب الإخبار بالمغيبات خصوصاً التي تحققت في عصرنا فقط دون غيره باب مطروق يطرقه كل من يتكلم عن أشراط الساعة وهناك تصانيف مفردة في موضوع دلائل النبوة وكل طالب علم جاد عنده نصيب وحصة من ذلك ، ولا زلت أذكر لما خرج علينا الدكتور هيثم طلعت يبشر بإسلام ملحدة كانت تنسق الحوارات بينه وبين بعض الملاحدة بسبب دراستها للبشارات التي عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتب أهل الكتاب
محور الهزيمة الثقافية : وهذا أحد أهم الأسباب التي تؤدي للعالمانية والإلحاد ولا يوجد أحد درس العقيدة الصحيحة ورأى فضلها على العقائد الأخرى ( والإلحاد أشدها سخفاً وتناقضاً ) وعلم أن الله يحاسب الناس على هذا الأساس إلا وصغر في عينه ما في أيدي الكفار ( من زهرة الحياة الدنيا ) بل يصير يشفق عليهم إذ فاتهم لذة التوحيد وعبادة الله عز وجل فإذا علم تفاصيل أحوالهم كمل أمره ، ولهذا العقيدة التوحيدية الخالصة هي أعظم الحجج في أيدينا أمام كل من يخالف وكذلك الإنسان الذي يتعلم العبادات القلبية والأنس بالله تهون الدنيا في عينه سواء كان في يد مسلم أو كافر إن حصل منها شيء التذ بها كما لا يلتذ أحد غيره التذاذ الآمن من الإثم لحرصه على ذلك وإن لم تحصل فهو في أنس عظيم ونحن نعلم أن الهزيمة الثقافية مع التعلق المفرط بالدنيا هي السبب الرئيسي للإلحاد وأن الأمر لو كان حججاً لانحسر الإلحاد غاية
=
محور الجهل بالوسائل والغايات واعتقاد ضرورية الفردوس الأرضي : كل طالب علم جاد يستشعر ( الله أكبر ) و( إنا لله وإنا إليه راجعون ) هذه الكلمة يتفوه بهذا كثيرون بألسنتهم ولكنهم في واقعهم يفهمون أن الدين ما جاء إلا لتحقيق مجموعة من المصالح الدنيوية وكأننا فيها خالدون فإذا لم تحصل له هذه المصالح ولم يحصل له التمكين الكامل كفر بالدين أو حرفه ، علماً أن التمكين غايته الأصلية ( رضا الله ) ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ) وهذه أمور أصلها موجود حتى في زمن الاستضعاف لهذا أمرنا أن ننكر بالقلب في زمن الاستضعاف وإنما طلب التمكين من أجل أنه إذا حصل نفذت هذه على أكمل وجه ممكن ، ولكن الناس اليوم تشبعوا بعكس هذا فيقولون المراد من الشرع الحرية أو العدل ثم تجد العدل والحرية هي بالمفهوم الغربي ولا يرون أن الشرك أظلم الظلم ( لظلم عظيم ) ويدعو كثير من المنتسبين للتيارات الإسلامية لترك إنكار منكر البدع العقائدية لأجل تحقيق اجتماع يتحقق به تمكين من الناس من يفهم التمكين للتوحيد ومنهم من لا يفهم منه إلا قهر الأعداء والقوة الاقتصادية لذا ينفرون من دراسة التوحيد ومسائل العقيدة أو يهونون من شأن الخلاف أو يقرأون التوحيد قراءة تلتقي مع هذه النزعة وهذا الأصل هو يعسوب ضلال الناس في هذا العصر فهو سبب الكثير من البدع والكثير من الكفر وسبب طريقة البحث والاجتزاء التي يمارسها كثيرون عند قراءة التراث وسبب النفرة من كلام السلف في أهل الأهواء والعكوف على كلام بعض المتأخرين ممن يغذي هذه النزعة وإن مما يذوب له القلب كمداً أنها نزعة يلتقي فيه الملحد الداعر مع من يحب السنة وذلك أن التأثر بهذه النزعة على درجات وليست درجة واحدة منها ما يكون كفراً ومنها ما يكون بدعة والله المستعان ولو فهم هذا الأصل لقطع الطريق على العالمانيين والملاحدة وجماعة جلد الذات وكل مبطل وليست دعوة للدروشة بالعكس لن يكون النصر حتى تنتهي هذه النزعة فإن الله يقول ( إن تنصروا الله ينصركم ) فلتكن ثقتنا بالله عظيمة ونتبع السلف كما هم بدون أي تأثير لمشاريع إصلاحية متأثرة بهذه النزعة حتى لو رأينا أن اتباع السلف ربما يعطل الاجتماع الذي نراه ضرورياً لتحقيق النصر ووالله لو حققتم التوحيد والاتباع لتفتحن عليكم بركات من السماء والأرض وليجمعن الله بين القلوب
ومما يدل على تمكن هذه النزعة من قلوب كثيرين أن العالمانيين والملاحدة يذمون الخلاف على الدين ويسمونه عنصرية ويرون التباغض على الدين شر وهذا كله فرع عن اعتقاد أنه لا آخرة وأننا خالدون في الدنيا فإذا كان هناك آخرة وعدائي لهذا الإنسان بسبب الآخرة الباقية فلا يهم أن تذهب بعض الدنيا من أجل الآخرة لأن الدنيا ممر والآخرة مستقر فاعتراض الملاحدة لا يقوم إلا على أساس بطلان الدين وهذا دور فيستدلون على إبطال الدين باعتراض لن يكون حقاً إلا إذا كان الدين باطلاً أصلاً
هذا الإيراد الذي يورده العالمانيون يتأثر به الكثير من الحركيين الذين يفنون أعمارهم في الرد على العالمانيين فتراه يحاول أن يقرب بين المتباعدين قدر المستطاع ويغضب ممن يتكلم في الخلاف العقائدي أو يظهر أحكاماً شديدة في المخالفين ( وما ذاك إلا نصح ورحمة ) ويردد لك ( أنتم بهذا تثبتون كلام العالمانيين أن الدين سبب نزاعات ) فنقول له ويكأنك تسلم بأصل العالماني أننا ينبغي أن نضحي بالدين من أجل الدنيا وليس للعالماني علينا حجة فهو يخالفنا فيما اتفقنا عليه وما زاد على أن تذمر من الخلاف ثم جاء بفرقة جديدة تزيد الخلاف خلافاً ولكنك لأنك تسلم له ببعض أصوله أفزعك إرهابه ولا حول ولا قوة إلا بالله.