ظهر أحد أبناء الأسر الثرية وتحدث عن أن سبب غناهم هو الصدقة، فاعترض عليه بعض الناس بأن هناك أثرياء كفار فهل يقال: سبب غناهم الصدقة!
في الواقع هذه مناسبة جيدة لتوضيح أمور مهمة تتعلق بهذا السجال في عدة نقاط:
الأولى: أن الأصل في ثواب الطاعات أنه أخروي، وأن المؤمن يطلب الثواب من عند الله عز وجل وعلى هذا تدل الأخبار في أمر الصدقة وغيرها.
كقوله تعالى: {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا (٥) عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا (٦) يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا (٧) ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا (٨) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} [الإنسان].
فذكر من أسباب ثوابهم ما كان منهم من صدقة، والنصوص في ذلك كثيرة جداً.
وفي السنة حديث: «إن العبد إذا تصدق بطيب تقبلها الله منه، وأخذها بيمينه ورباها كما يربي أحدكم مهره، أو فصيله، وإن الرجل ليتصدق باللقمة، فتربو في يد الله -أو قال: في كف الله- حتى تكون مثل الجبل، فتصدقوا».
فيطلب بذلك حصول الثواب واندفاع العقاب المشار إليه في مثل قوله تعالى: {ما سلككم في سقر (٤٢) قالوا لم نك من المصلين (٤٣) ولم نك نطعم المسكين (٤٤)} [المدثر].
بل كان السلف الأوائل إذا فتح عليهم في الدنيا يخشون أن تكون حسناتهم عجِّل لهم بها.
الثانية: أن الدنيا ليست دار ثواب، فليس غنى المرء عن رضا لله عز وجل عليه، فقد يكون استدراجاً، ولا فقره عن سخطٍ لله عز وجل عليه، وقد وردت أخبار في فضل الفقراء، وأخبار في فضل الصدقة، لذا اختلف الناس من أفضل الغني الشاكر أم الفقير الصابر.
الثالثة: أن وجود نفع دنيوي لبعض الطاعات لا يمتنع، وليس لازماً في كل طاعة.
قال تعالى: {وكان أبوهما صالحاً} فانتفعا نفعاً دنيوياً مالياً بصلاح الأب، والانتفاع بدعاء الفقير وبركة الصدقة ليست مستبعدة.
ولا يُعترض على هذا بانتفاع من ليس أبوه صالحاً بورثه ووصول حقه إليه.
فكون الشيء سبباً لا يعني أنه السبب الوحيد كما ورد في الحديث: «من أراد أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه»، وليس كل مبسوط له في الرزق واصِلاً لرحمه، ولكن صلة الرحم سبب شرعي، كما أن هناك أسباباً حسية لتحصيل هذا الأمر، فقد يُبسط رزق إنسان لذكاء فيه، وقد يُبسط رزقه لميراث يحصِّله، وقد يُبسط رزقه لرعاية سلطان، وهذه الأسباب لا ينفي أحد منها الآخر.
غير أن الأسباب الشرعية فيها بركة.
ولذلك الزكاة سميت زكاةً في قول جماعة من العلم من النماء، لأنها تنمي المال لمباركته.
وقد ورد في الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم، أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم، أعط ممسكا تلفا».
وفي الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة: «يا ابن آدم أنفق أنفق عليك».
وهذا يشمل الدنيا والآخرة، وليس من شرطه أن يحصِّل المرء الضعفين أو الثلاثة كما ينتشر بين بعض العوام، ولكن قد يكون سبباً في سلامة المال، أو حصول البركة به ألَّا يكون مفرِّقاً بين الأرحام على عادة أهل الأموال في نزاعاتهم، وقد يدخر الله عز وجل الثواب الأعظم في الآخرة.
وقد يتصدق المرء ولكنه يقوم بأسباب تمحق البركة، مثل: التبذير والتعيير والمن والأذى والظلم، فتصيبه دعوة مظلوم أو يعجِّل الله له بالعقوبة في الدنيا عسى أن يعتبر.
والأخيرة: أن هذا الثواب من كون الصدقة قد تكون سبباً في الغنى قد يحصِّله كافر أيضاً، فقد ورد في صحيح مسلم: أن الكافر يأكل بحسناته في الدنيا، وهذا من ضمنها.
ولكن الغنى بالمال يكون بتحصيل مقصوده، فكم من إنسان جمع المال، ولكن عرضت عوارض دون الانتفاع به كما ينبغي، بل كان ما يتحصَّل به من الهم والغم وتفرُّق الأرحام وذهاب الدين، بل وأحياناً ذهاب الأعراض، أعظم بكثير من بلية الفقر مع بقاء هذه كلها أو بعضها.