هل الخوارج مجتهدون لا يكفَّرون ولا يفسَّقون عند ابن تيمية؟

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

من أهم المشكلات العلمية في زمن مواقع التواصل الاجتماعي أن ينشر أحدهم اقتباسًا مختصرًا دون سباقه ولحاقه وسياقه، ليوصل فكرة إلى القارئ.

فتحتاج لكي تشرح الأمر للناس أن تأتي بالسياق كاملًا، ثم تؤيد قراءتك من بقية كلام الشيخ المحال الكلام إليه، وهذه عملية تطول، وكثير من الناس كسالى، فيبقى النص المختزل المختصر أرسخ في الذهن من الشرح المطول، غير أن المرء لا بد له من بيان وإن كانت هذه العقبة الكَأْداء لا تزول بسهولة.

قال ابن تيمية في منهاج السنة (5/239): “الثاني أن المتأول الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر، بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ. وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية. وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفر المخطئين فيها. وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية، ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة، كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم“.

هذا النص ينتشر هذه الأيام ليُنزل على أعيان الأشعرية خاصة فيُنفى عنهم التكفير والتبديع، علمًا أن الكلام عام، وهنا سؤال:

ما داعي ذكر هذا الكلام في كتاب يرد على الرافضة؟

الجواب: أن الرافضة يكفِّرون الصحابة باجتهاداتهم في الفتنة، وأن الرافضي جمع أخطاء المعظِّمين لأبي بكر وعمر من كل الفرق وجعلها مُسقِطة لهم بالكلية، مفضِّلة للرافضة عليهم، فكان الشيخ يبين هنا أنهم حتى لو أخطأوا لا يكونون شرًّا من الرافضة على كل حال.

وهنا سؤال آخر: ابن تيمية ذكر مذاهب الصحابة والتابعين فهل لكلامه تتمة تشرح ما الذي نقله عن الصحابة؟

الجواب: ابن تيمية شرح الأمر بنفسه فقال في منهاج السنة (5/ 241) أيْ بعد صحيفتين من النقل المذكور: “وأصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب وغيره لم يكفروا الخوارج الذين قاتلوهم، بل أول ما خرجوا عليه وتحيزوا بحروراء، وخرجوا عن الطاعة والجماعة، قال لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ولا حقكم من الفيء“.

فالمثال الحاضر على أصحاب العقائد الذين لم يكفروا هم الخوارج بنص كلام الشيخ، ولا يعقل أن الشيخ يرى أن الخوارج ليسوا فساقًا، وإذا كنت ترى الخوارج لم يكن قصدهم متابعة الرسول فينبغي أن تقول هذا في المتكلمين أيضًا، فالخوارج ما صرَّحوا بتقديم العقل على النقل ولا دعوى أن ظواهر النصوص تشبيه.

فكلام الشيخ حين تحدث عن الذي لا يكفر ولا يفسق أراد المسائل العملية والنظرية الخفية، ولما تكلم عن العقائد نفى التكفير عن عامة أهل البدع من أهل القبلة أصحاب الثنتين وسبعين فرقة، ولم يقصد أنهم ينتفي عنهم الفسق كما ينتفي عن الفقهاء المجتهدين المخطئين.

وهذا ما لا يفهمه عامة من يورد هذا الكلام، وهو أنه أصالة وارد في الخوارج، فهم أهل البدع في زمن السلف، وطريقة المعاصرين التشديد فيمن يكفِّر بالباطل والتسهيل فيمن يضل في باب الأسماء والصفات، لاستهوانها عندهم. وجرت عادة ابن تيمية في عامة تصانيفه في تفضيل الخوارج على نفاة الصفات.

فدائمًا يكرِّر أن السلف أخرجوا الجهمية من الثتنين وسبعين فرقة (إشارة إلى تكفيرهم) وأدخلوا الخوارج.

وقال في التسعينية: “وقول الجهمية فيه من التنقص والسب والطعن على السلف والأئمة وعلى السنة ما ليس في قول الخوارج والروافض. فإن الخوارج يعظمون القرآن ويوجِبون اتباعه وإن لم يتبعوا السنن المخالفة لظاهر القرآن وهم يقدحون في علي وعثمان ومن تولاهما وإن لم يقدحوا في أبي بكر وعمر.
وأما الجهمية فإنها لا توجب بل لا تجوِّز اتباع القرآن في باب صفات الله كما يصرحون به، كالرازي ونحوه من المعتزلة وغيرهم فضلًا عن أن يتبعوا السنن أو إجماع السلف، فالجهمية أعظم قدحًا في القرآن وفي السنن وفي إجماع الصحابة والتابعين من سائر أهل الأهواء.
ولهذا تنازع العلماء من أصحابنا وغيرهم هل هم داخلون في الثنتين والسبعين
“.

والتسعينية أصلًا رد على الأشعرية، وصرَّح في رده على الرازي أن السلف ذموا نفاة العلو بأكثر مما ذموا به الخوارج، وصرح أيضًا أنهم لم يعتبروا مسألة العلو اجتهادية، ولا جعلوها من جنس بدع الخوارج والقدرية، بل جعلوها شيئًا أعظم.

قال في بيان تلبيس الجهمية: “ونَقْلُ أقوال السلف من القرون الثلاثة ومَن نَقَل أقوالهم في إثبات أن الله تعالى فوق العرش يطول ولا يتسع له هذا الموضع ولكن نبهنا عليه ولم يكن هذا عندهم من جنس مسائل النزاع التي يسوغ فيها الاجتهاد بل ولا كان هذا عندهم من جنس مسائل أهل البدع المشهورين في الأمة كالخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة بل كان إنكار هذا عندهم أعظم عندهم من هذا كله وكلامهم في ذلك مشهور متواتر ولهذا قال الملقب بإمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة فيما رواه عنه الحاكم مَن لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة“.

فالذي يقرره ابن تيمية من وجود مسائل لا تبديع فيها ولا تكفير هذا لا يُخالَف فيه، وما يقرره من وجود مخالفين عقائديين ليسوا مكفَّرين ولكنهم مبتدعة هذا أيضًا لا يُنازِع فيه أحد، فحتى من يكفر الجهمية لا يكفر المرجئة والقدرية غير الغلاة ولا الشيعة المفضلة، وما يذكره من وجود بدعة مكفرة لكن لا يكفر كل أهلها فهذا لا ينازع أحد في جنسه، فكثير ممن يكفر بإنكار أخبار معينة مثل أخبار الدجال والمسيح يشترط قيام الحجة، وكذلك هناك تفصيل في الواقفة واللفظية، والمعتزلة والخوارج حقًّا يكفرون كل مخالف عقدي أيا كانت مخالفته.

ولكن هل الشيخ يعترض على وجود مكفرين في العقائد؟

الجواب: لا؛ فهو نفسه في منهاج السنة يقول مخاطبًا للحلي: “الله أكبر على هؤلاء المرتدين المفترين، أتباع المرتدين الذين برزوا بمعاداة الله ورسوله وكتابه ودينه”.

ويقول أيضًا: “وأما الغالية في علي رضي الله عنه فقد اتفق الصحابة وسائر المسلمين على كفرهم، وكفَّرهم علي بن أبي طالب نفسه وحرقهم بالنار”.

وله تفصيل في موضوع الإطلاق والتعيين في أمر الجهمية، سواءً تمت موافقته أو مخالفته هو لا يعني به نفي المؤاخذة مطلقًا ولا نفي التكفير من أساسه، بل يكفر المعين منهم بعد قيام الحجة، وهو مطلقًا مبتدع.

قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (12/180): “ولا ريب أن من قال إن أصوات العباد قديمة فهو مفتر مبتدع له حكم أمثاله كما أن من قال: إن هذا القرآن ليس هو كلام الله فهو مفتر مبتدع له حكم أمثاله. ومن قال: إن القرآن العربي ليس هو كلام الله بل بعضه كلام الله وبعضه ليس كلام الله فهو مفتر مبتدع له حكم أمثاله. ومن قال: إن معنى آية الكرسي وآية الدين و {قل هو الله أحد} و {تبت يدا أبي لهب وتب} معنى واحد فهو مفتر مبتدع له حكم أمثاله. وأما “التكفير”: فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقصد الحق فأخطأ: لم يكفر؛ بل يغفر له خطؤه. ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين: فهو كافر. ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم: فهو عاص مذنب. ثم قد يكون فاسقا وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته. فـ “التكفير” يختلف بحسب اختلاف حال الشخص“.

فهذا تفصيله، وحين يفصل فيمن يكفر ومن لا يكفر يجزم بتبديع الجميع، ومن نهجه أن المبتدع خصوصًا الداعية يعاقب وإن كان في نفسه متأولًا حفاظًا على الشريعة العامة، وعامة من يقولون بتفصيله لا يفطنون إلى دخول الخوارج والغلاة في كلامه، ولا يفطنون أيضًا لضوابط تضبط كل قسم في كلامه.

ومما يؤكد أن الكلام في كتابه منهاج السنة في نفي التبديع والتكفير معاد قصد به الأخطاء الفقهية دون الاعتقادية قوله بعدها مباشرة: “وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله فخالف السنة، أو أذنب ذنبا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة، فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارا، بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد، كما يستحقه عصاة المؤمنين. والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخرجهم من الإسلام، بل جعلهم من أمته، ولم يقل: إنهم يخلدون في النار”.

فهو يتكلم عن أقوام متوعدين بالنار، وهذا معنى الفسق، على أننا لا نجزم بوقوع الوعيد الأخروي على معين لبدعة مفسقة أو معصية (ولا نجزم بالمغفرة له أيضا كما يفعل البعض)، ولكن هذا وعيد عام ومن قاعدته أن الوعيد لا يحمل على أقل القليل.

قال ابن تيمية في رفع الملام: “ومثل هذا العموم لا يجوز حمله على الصور النادرة؛ إذ الكلام يعود لكنةً وعيًّا“.

علمًا أن هؤلاء المتوعدين هم أصحاب البدع المفسقة، وأما أصحاب البدع المكفرة فبابهم آخر تمامًا.

وشرح كلام الشيخ لا يعني موافقته على كل ما يقول، ولكن لا بد أن يبرز كلامه للناس كاملًا ويدفع التوهم. وعند المخالف لا يوجد خارجي غير مبتدع، فقط الأشعري الذي هو شر من الخارجي عند ابن تيمية يوجد منه غير مبتدع، فتأمَّل هذا!