هل أحاديث تكفير الذنوب المتأخرة تؤدي إلى الاتكال ؟
هناك شبهة عرضت لي قبل مدة من بعضهم عند الكلام على حديث صيام يوم عرفة وهو أن القول بأن الذنوب المتأخرة تغفر يؤدي إلى الاتكال
ثم وجدت بعض المشتغلين بالحديث كأنه دخلت عليه هذه الشبهة وذهب إلى رسالة ابن حجر الخصال المكفرة وخرج بنتيجة خلاصتها أن كل حديث فيه ( وما تأخر ) حديث منكر يعني يغفر من ذنبه ما تقدم وما تأخر كل حديث في ذلك منكر
وقبل الدخول في النقاش الحديثي لا بد من بيان الجواب على مسألة هل التنصيص على مغفرة الذنوب المتأخرة يدعو للاتكال ؟
الجواب : هذا إن فهمه بعض العوام فلا ينبغي أن يفهمه الخواص ويصحح هذا الفهم الغالط فإن الشرك لا يغفر ولا يُؤْمِن على أحد الشرك وهو يحبط الأعمال فالمرء الذي يغتر ينبغي أن يضمن سلامته من الشرك ومحبطات الأعمال وهذا لا يقع لأحد يفهم بل هو من الأمن من مكر الله
وقد دلت السنة على وجود محبطات للأعمال كما دل على وجود حسنات ومكفرات للذنوب ليستقيم القلب بين الرجاء والخوف فهناك حديث المفلس المعروف والذي فيه أن المرء كل حسناته قد تذهب بسبب الحقوق وشرط المغفرة المذكورة في الأحاديث قبول الحسنة وسلامتها من المحبطات
فأما القبول فأصل أهل السنة أنهم لا يجزمون لأنفسهم بقبول الحسنات ويرون ذلك من أقوال المرجئة كما روي عن ابن المبارك وعلى هذا بني قولهم في الاستثناء في الإيمان
جاء في مسند إسحاق : فقال له بن المبارك يا أبا عبد الله إن المرجئة لا تقبلني أنا أقول الإيمان يزيد المرجئة لا تقول ذلك والمرجئة تقول حسناتنا متقبلة وأنا لا أعلم تقبلت مني حسنة.
قال الخلال في السنة 1067 – وأخبرني الحسن بن عبد الوهاب، قال: ثنا أبو بكر بن حماد المقرئ، قال: وأخبرني بعض أصحابنا، قال: سمعت أبا عبد الله، يقول: ” لو كان القول كما تقول المرجئة: إن الإيمان قول، ثم استثنى بعد على القول لكان هذا قبيحا، أن تقول: لا إله إلا الله إن شاء الله، ولكن الاستثناء على العمل “
يعني لا ندري العمل متقبل أم لا وصح عن سفيان : ولا ندري ما حالنا عند الله .
فالمرء يعمل الصالحات ويرجو ما عند الله ولا يجزم بالقبول والاتكال فرع عن الجزم بالقبول فالذي استشكل دخلت عليه شبهة المرجئة أولا فأنكر ثانيا .
وهذه شبيه بحثهم في مسائل التكفير فالأمر عندهم إما يقع بلا شروط وموانع وأما اذا وجدت الشروط والموانع فذلك معناه عندهم تعطيل الحكم بالكلية !
وأما الشرط الثاني وهو السلامة من المحبطات وهذا تكلمت عليه آنفا وحتى بعض المرجئة كالأشعرية كان يصحح الاستثناء في الإيمان بناء على هذا الأصل وهو أصل ( الموافاة ) بمعنى لا ندري بماذا يختم للمرء فهم الإيمان عندهم شيء واحد ولا يتفاضل كما يقول أهل السنة ومع ذلك يستثنون باعتبار الموافاة بمعنى لا ندري هل يموت على الإسلام أو الكفر مع أنه أمامنا مسلم الان وأما أهل السنة فالإيمان يتفاضل ويتجزأ فيصح الاستثناء باعتبار الشك في بعضه دون بعض فالعمل لا يدرى هل يقبل أم لا ؟
وبناء على الأصلين لا يغتر أحد بعمله مع شدة الرجاء بل يصير عمله الصالحات وحرصه على ثوابها أكبر محرض له على البعد من محبطات الأعمال
وقد وقع مع الصحابة ما هو أعظم من الوعد العام الذي لا يعلم هل وقع أم لا فوقع تبشير بعضهم بالجنة بل والتنصيص على نفي الضرر كما حصل مع عثمان وأهل بدر
وفِي مسند إسحاق بسند صحيح عن خيثمة قال: كان سعد بن أبى وقاص فى نفر، فذكروا عليا، فشتموه فقال سعد: مهلا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أصبنا ذنبا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ” لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ” وأرجو أن تكون رحمة من الله سبقت لنا فقال بعضهم: فوالله إن كان ليبغضك ويشتمك الأخينس، فضحك سعد حتى استعلاه الضحك ثم قال: أو ليس الرجل قد يجد على أخيه فى الأمر، يكون بينه وبينه ثم لا يبلغ ذلك أمانته، وذكر كلمة أخرى.
وما حملهم ذلك على الاتكال بل كانوا يخشون نزول الدرجات وإن كانوا ضامنين للجنة فكيف يغتر من هو دونهم ممن لم له قبول الأجر أو الختم بالحسنى.
ومن هذا الباب ما ورد أن الرؤيا في المنام من المبشرات وأن رؤيا المؤمن تسره ولا تغره
فبعدما أزلنا الوحشة من المتون نأتي إلى البحث الحديثي وحقا زيادة ( وما تأخر ) شاذة حديثيا في عامة أحاديث الفضائل وليس في متنها ما يستنكر غير أن معناها وارد في حديث ثابت فات ابن حجر ذكره
قال مسلم في صحيحه 27 – (857) وحدثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا»
قوله ( وزيادة ثلاثة أيام ) هو بمعنى ( وما تأخر ) ثم ما الذي سيغفر كثير من الناس يقولون هي الصغائر مستدلين بالأخبار الأخرى ( ما اجتنبت الكبائر ) والتحقيق أن هذا هو الأصل ولكن قد يقوى إخلاص المرء حتى يكفر حتى الكبائر فجنس التكفير موجود لمن قبل عمله ثم أفرادهم يتفاوتون في نوع التكفير ويدل على ذلك حديث البغي التي سقت كلبا فغفر لها وذلك لقوة الإخلاص وإلا فالبغاء كبيرة
ولعل بعضهم سيستروح للطعن في الحديث بعنعة الأعمش !
إذ لا حرمة لصحيح مسلم عندهم وهذا إعلال عليل
قال أبو داود في مسائله عن أحمد : فَقلت الْأَعْمَش مَتى تصاد لَهُ الْأَلْفَاظ قَالَ يضيق هَذَا أَي أَنَّك تحتج بِهِ.
وقال الذهبي في الميزان : قلت: وهو يدلس، وربما دلس عن ضعيف، ولا يدرى به، فمتى قال حدثنا فلا كلام، ومتى قال ” عن ” تطرق إلى احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم: كإبراهيم، وابن أبي وائل، وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال.
قال الخطيب في الكفاية 1181 : أخبرنا أبو نعيم الحافظ ، ثنا محمد بن أحمد بن الحسن ، ثنا بشر بن موسى ، قال : قال عبد الله بن الزبير الحميدي :
وإن كان رجل معروفا بصحبة رجل والسماع منه ، مثل ابن جريج عن عطاء أو هشام بن عروة عن أبيه وعمرو بن دينار عن عبيد بن عمير ، ومن كان مثل هؤلاء في ثقتهم ، ممن يكون الغالب عليه السماع ممن حدث عنه ، فأدرك عليه أنه أدخل بينه وبين من حدث رجلا غير مسمى ، أو أسقطه ، ترك ذلك الحديث الذي أدرك عليه فيه أنه لم يسمعه ، ولم يضره ذلك في غيره ، حتى يدرك عليه فيه مثل ما أدرك عليه في هذا ، فيكون مثل المقطوع .
وهذا إسناد قوي إلى الحميدي ، وهو تفصيل دقيق في هذه المسألة
وأحسب أن عنعنة هشيم عن حصين من هذا الباب فإنه مكثر عن حصين ملازم له فتحمل روايته عنه على الاتصال ولو بالعنعنة ما لم يثبت عندنا دليل على التدليس ومثل هذا يقال في عنعنة الأعمش عن أبي صالح
ومن الأمور المشاهدة في عدد من المشتغلين بالحديث الْيَوْم ضعف الفقه حتى بكلام فقهاء الحديث مما يدفعهم إلى استنكار أخبار مشهورة بين العلماء ولَم يستنكرها أحد وإنما يستنكرونها في أحيان ليست بالقليلة تبعا لاستشكالات الحداثيين الضعيفة وهم عرفوا بعض ممارسات الأئمة وقاسوا عليها بقية الدين وكان ينبغي أن ينظروا في تصرفات الأئمة كاملة حتى يفقهوا الباب على وجهه.