هبك عفا عنك فقد فاتتك جنة الدنيا

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن كثيراً ممن تمرغ بأوحال المعصية ، يغلب نفسه طلب الشهوة ويسوف التوبة
ويقول سيغفر الله لي .

فيقال له : وقد لا يغفر الله لك فلم تعرض نفسك لعطب لا تطيق عشر معشاره
، وهبك عفا عنك فقد فاتتك جنة الدنيا

فإن قال : وما جنة الدنيا ؟

قيل له : الأنس بالله عز وجل وطاعته

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (14/ 160) :” فالإنسان إذا
كان مقيما على طاعة الله باطنا و ظاهرا كان فى نعيم الإيمان و العلم وارد عليه من جهاته
و هو فى جنة الدنيا كما فى الحديث إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قيل و ما رياض الجنة
قال مجالس الذكر و قال ما بين بيتى و منبري روضة من رياض الجنة فإنه كان يكون هنا فى
رياض العلم و الإيمان

و كلما كان قلبه في محبة الله و ذكره و طاعته كان معلقا بالمحل الأعلى
فلا يزال فى علو ما دام كذلك فإذا أذنب هبط قلبه إلى أسفل فلا يزال فى هبوط مادام كذلك”

وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (17/27) :” والله يحب المحسنين
وليسلم قلبه من الغل للناس وكلا النوعين يشترك فى أن صاحبه يستشعر أن ذلك بذنوبه وهو
مما يكفر الله به سيئاته و يستغفر ويتوب وأيضا فيرى أن ذلك الصبر واجب عليه وأن الجزع
مما يعاقب عليه وإن إرتقى إلى الرضا رأي أن الرضا جنة الدنيا ومستراح العابدين وباب
الله الأعظم وإن رأي ذلك نعمة لما فيه من صلاح قلبه ودينه وقربه إلى الله وتكفير سيئاته
وصونه عن ذنوب تدعوه إليها شياطين الإنس والجن شكر الله على هذه النعم “

وقال ابن القيم في زاد المعاد (2/22) :” وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ
ضِيقِ الصّدْرِ الْإِعْرَاضُ عَنْ اللّهِ تَعَالَى وَتَعَلّقُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ
وَالْغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِهِ وَمَحَبّةُ سِوَاهُ فَإِنّ مَنْ أَحَبّ شَيْئًا غَيْرَ
اللّهِ عُذّبَ بِهِ وَسُجِنَ قَلْبُهُ فِي مَحَبّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَمَا فِي الْأَرْضِ
أَشْقَى مِنْهُ وَلَا أَكْسَفَ بَالًا وَلَا أَنْكَدُ عَيْشًا وَلَا أَتْعَبُ قَلْبًا
فَهُمَا مَحَبّتَانِ مَحَبّةٌ هِيَ جَنّةُ الدّنْيَا وَسُرُورُ النّفْسِ وَلَذّةُ الْقَلْبِ
وَنَعِيمُ الرّوحِ وَغِذَاؤُهَا وَدَوَاؤُهَا بَلْ حَيَاتُهَا وَقُرّةُ عَيْنِهَا وَهِيَ
مَحَبّةُ اللّهِ وَحْدَهُ بِكُلّ الْقَلْبِ وَانْجِذَابُ قُوَى الْمَيْلِ وَالْإِرَادَةُ
وَالْمَحَبّةُ كُلّهَا إلَيْهِ “

وقال ابن القيم في الجواب الكافي ص139 :” والابرار في نعيم وان
اشتد بهم العيش وضاقت بهم الدنيا والفجار في جحيم وإن إتسعت عليهم الدنيا قال تعالى
من عمل صالحا من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة وطيب الحياة جنة الدنيا قال
تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا
فاي نعيم أطيب من شرح الصدر وأي عذاب أضيق من ضيق الصدر “

وقال ابن القيم في الوابل الصيب ص67 :” فمحبة الله تعالى ومعرفته
ودوام ذكره والسكون إليه والطمأنينة إليه وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة
بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته هو جنة الدنيا والنعيم
الذي لا يشبهه نعيم وهو قوة عين المحبين وحياة العارفين وإنما تقر عيون الناس به على
حسب قرة أعينهم بالله عز و جل فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين ومن لم تقر عينه بالله
تقطعت نفسه على الدنيا حسرات “

وقال ابن القيم في مدارج السالكين (3/312) :” من ذاق مقام المحبة
عرف صحة ما يقوله الشيخ فإن نعيم المحبة في الدنيا رقيقة ولطيفة من نعيم الجنة في الآخرة
بل هو جنة الدنيا فما طابت الدنيا إلا بمعرفة الله ومحبته ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته
فنعيم المحب دائم وإن مزج بالآلام أحيانا فلو عرف المشغولون بغير الحق سبحانه ما فيه
أهل محبته وذكره ومعرفته من النعيم لتقطعت قلوبهم حسرات ولعلموا أن الذي حصلوه لا نسبة
له إلى ما ضيعوه وحرموه”

وقال ابن القيم في الوابل الصيب ص67 :” وسمعت شيخ الإسلام أبن
تيمية قدس الله روحه يقول : أن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة وقال
لي مرة : ما يصنع أعدائي بي ؟ أنا جنتي وبستاني في صدري إن رحت فهي معي لا تفارقني
إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة وكان يقول في محبسه في القلعة : لو
بذلت ملء هذه القاعة ذهبا ما عدل عندي شكر هذه النعمة أو قال ما جزيتهم على ما تسببوا
لي فيه من الخير ونحو هذا وكان يقول في سجوده وهو محبوس اللهم أعني على ذكرك وشكرك
وحسن عبادتك ما شاء الله وقال لي مرة : المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى والمأسور
من أسره هواه ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال : { فضرب بينهم بسور
له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا
منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها ومع ما كان فيه
من الحبس والتهديد والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا وأشرحهم صدرا وأقواهم قلبا
وأسرهم نفسا تلوح نضرة النعيم على وجهه وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت
بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحا وقوة
ويقينا وطمأنينة فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل
فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها “

قال أبو نعيم في الحلية (8/292) : حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ
حَيَّانَ , ثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْمَاطِيُّ , ثنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي
الْحَوَارِيِّ , قَالَ: سَمِعْتُ الْمَضَاءَ، سَأَلَ سِبَاعًا الْمَوْصِلِيُّ , فَقَالَ:
يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ أَفْضَى بِهِمُ الزُّهْدُ؟ فَقَالَ: «إِلَى
الْأُنْسِ بِهِ»

وأي عيش أطيب من عيش من أنس بالله العليم بكل شيء البصير بكل شيء السميع
بكل شيء من بيده خزائن الخير كله الرؤوف الرحيم الغفور الحليم الودود سبحانه وتعالى

وقال أبو نعيم في الحلية (9/377) : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمِصْرِيُّ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْبَرْقَعِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ، يَقُولُ: «الْأُنْسُ بِاللَّهِ نُورٌ
سَاطِعٌ، وَالْأُنْسُ بِالنَّاسِ غَمٌّ وَاقِعٌ»

قِيلَ لِذِي النُّونِ: مَا الْأُنْسُ بِاللَّهِ؟ قَالَ: «الْعِلْمُ
وَالْقُرْآنُ»

إي والله غم واقع وتأمل تعريفه للأنس بالله وما فيه من مناقضة أحوال
الأدعياء الصوفية وهذا الرجل يدعون أنه منهم

وإن مما يخجلني حقاً أن يتكلم مثلي في هذه الأمور ولكن رب مبلغ أوعى
من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وأسأل الله عز وجل أن يعفو عني ويسترني في
الدنيا والآخرة

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم