فمن التأصيلات البدعية الحادثة في هذا
العصر في باب التبديع قول بعضهم أن قولك ( مرجيء ) لا يقتضي التبديع بمعنى أن هناك
مرجئا ليس مبتدعاً ! ، وهذا كقول من يقول أن قولك ( يهودي ) لا يعني التكفير فقد
يوجد يهودي ليس كافراً ! وهذا مخالف لإجماع المسلمين
قال اللالكائي في السنة 914 – أخبرنا محمد
بن علي بن النضر قال : أخبرنا علي بن عبد الله بن مبشر قال : ثنا أبو حاتم محمد بن
إدريس قال : ثنا محمود بن غيلان أبو أحمد قال : سمعت مؤمل بن إسماعيل يقول في غير
مجلس : يقبل علينا ، أحرج على كل مبتدع جهمي ، أو رافضي ، أو قدري ، أو مرجئ سمع
مني ، والله لو عرفتكم لم أحدثكم
فجعله ( مرجيء ) و ( قدري ) بدل لمبتدع
يدل على أنه لا فرق بين مرجيء ومبتدع
وأما الجهمي والرافضي فكفار
ولا يوجد عن أحد من السلف أنه قال ( مرجيء
) أو ( شيعي يفضل علياً على الشيخين ) أو ( خارجي ) ليس بمبتدع
ولهذا لا تجد في رواة الكتب الستة من وصف
بأنه مبتدع إلا ابن الثلجي الذي كان كافراً أصلاً ( وإنما ذكر للتمييز وليس من من
رجال الكتب الستة )
وذلك لأن قولهم ( مرجيء ) أو ( إباضي ) أو
( قدري ) يغني عن كلمة ( مبتدع )
قال الخطيب البغدادي في الكفاية ص355
:” باب ما جاء في الأخذ عن أهل البدع والأهواء والاحتجاج برواياتهم”
ثم قال في آخر الباب في ص375 :” والذي
نعتمد عليه في تجويز الاحتجاج بأخبارهم ما اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج
وشهاداتهم ، ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل ، ثم استمرار عمل التابعين
والخالفين بعدهم على ذلك ، لما رأوا من تحريهم الصدق وتعظيمهم الكذب ، وحفظهم
أنفسهم عن المحظورات من الأفعال ، وإنكارهم على أهل الريب والطرائق المذمومة ،
ورواياتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم ، ويتعلق بها مخالفوهم في الاحتجاج عليهم ،
فاحتجوا برواية عمران بن حطان وهو من الخوارج وعمرو بن دينار ، وكان ممن يذهب إلى
القدر والتشيع ، وكان عكرمة إباضيا ، وابن أبي نجيح وكان معتزليا ، وعبد الوارث بن
سعيد وشبل بن عباد وسيف بن سليمان وهشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة وسلام بن
مسكين ، وكانوا قدرية ، وعلقمة بن مرثد وعمرو بن مرة ومسعر بن كدام وكانوا مرجئة ،
وعبيد الله بن موسى وخالد بن مخلد وعبد الرزاق بن همام وكانوا يذهبون إلى التشيع ،
في خلق كثير يتسع ذكرهم ، دون أهل العلم قديما وحديثا رواياتهم ، واحتجوا بأخبارهم
، فصار ذلك كالإجماع منهم ، وهو أكبر الحجج في هذا الباب ، وبه يقوى الظن في
مقاربة الصواب”
ولي مع نصه وقفات
أولها : أنه نص على أن أهل البدع هم
المتأولون فالمعاند عنده الكافر وهذا يبطل قول من اشترط في كل تبديع إقامة الحجة
مهما كانت البدعة ظاهرة ( وهذا قول بدعي خبيث )
ثانيها : أنه نص على أنهم فساق بالتأويل
ثم مثل بعكرمة وابن أبي نجيح وعبد الوارث بن سعيد وعبد الرزاق ومسعر فهم عنده أهل
أهواء مع كل ما عندهم من العلم والخدمة للإسلام ولا شك أنهم ليسوا معاندين ولو
كانوا كذلك لسقطت عدالتهم
وقد اتفق كل من صنف في علم الأصول أو
المصطلح على تسمية هذا الباب باب ( رواية المبتدع ) وينقلون الأقوال التي نقلها
الخطيب فهذا إجماع لا يدفع على تبديع من كان إباضياً أو قدرياً أو خارجياً مطلقاً
ومثلهم الحزبي اليوم
بل قرن الخطيب عكرمة بعمران بن حطان ومن
يشك في أن أهل الحديث يبدعون عمران بن حطان ونظيره قول يحيى بن معين لما سئل عن
روايته عن بعض القدرية وتركه لعمرو بن عبيد فقال أن عمرو بن عبيد كان داعية فما
قال في الآخرين أنهم ليسوا مبتدعة وخدموا الإسلام كما يقال اليوم !
وقد اتفق المخرجون للأحاديث على تنزيل بحث
( رواية المبتدع ) على كل من قيل فيه ( مرجيء ) أو ( شيعي ) أو ( خارجي )
وقد نص ابن تيمية في منهاج السنة على أن
عامة الرواة من أهل البدع في الكتب الستة ليسوا دعاة
قال ابن الصلاح في مقدمته :” اختلفوا
في قبول رواية المبتدع ألذى لا يكفر في بدعتة: فمنهم من رد رواية معللا، لأنه فاسق
ببدعته. وكما استوى في الكفر المتأول ويستوى في الفسق المتآول وغير المتأول.
ومنهم من قبل رواية المبدع إذا لم يكن ممن
يستحل الكذب في نصره مذهبه أو لأهل مذهبه، سواء كان داعية إلى بدعتهأ ولم يكن. عزا
بعضهم هذا إلى الشافعى، لقوله: آقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة
لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم.
وقل قوم: تقبل روايته إذا لم يكن داعية،
ولا تقبل إذا كان داعية إلى بدعتة، وهذا مذهب الكثير أو الأكثر من العلماء.
وحكى بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه
خلافاً بين أصحابه في قبول رواية المبتدع إذا لم يدع إلى بدعتة، وقال: أما إذا كان
داعية، فلا خلاف بينهم في عدم قبول روايته.
وقال أبوحاتم بن حبان البستي، أحد
المصنفين من أئمة الحديث: الداعية إلى المبدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا
قاطبة، لا أعلم بينهم فيه خلافأ”
وقال الغزالي في المستصفى (1/312) :”
وَقَدْ قَبِلَ الشَّافِعِيُّ رِوَايَةَ بَعْضِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَإِنْ كَانَ
فَاسِقًا بِبِدْعَتِهِ لِأَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ فِي فِسْقِهِ ؟ قُلْنَا : فِي
رِوَايَةِ الْمُبْتَدِعِ الْمُتَأَوِّلِ كَلَامٌ سَيَأْتِي ، وَأَمَّا الْكَافِرُ
وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ لِأَنَّ كُلَّ كَافِرٍ
مُتَأَوِّلٌ ، فَإِنَّ الْيَهُودِيَّ أَيْضًا لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ كَافِرًا .
أَمَّا الَّذِي لَيْسَ بِمُتَأَوِّلٍ
وَهُوَ الْمُعَانِدُ بِلِسَانِهِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ بِقَلْبِهِ فَذَلِكَ
مِمَّا يَنْدُرُ ، وَتَوَرُّعُ الْمُتَأَوِّلِ عَنْ الْكَذِبِ كَتَوَرُّعِ النَّصْرَانِيِّ
فَلَا يُنْظَرُ إلَيْهِ ، بَلْ هَذَا الْمَنْصِبُ لَا يُسْتَفَادُ إلَّا
بِالْإِسْلَامِ ، وَعُرِفَ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِالْقِيَاسِ”
فانظر كيف أنه إرجائه وضلاله نص على أن
المبتدع يكون متأولاً
وقال أيضاً :” مَسْأَلَةٌ الْفَاسِقُ
الْمُتَأَوِّلُ وَهُوَ الَّذِي لَا يَعْرِفُ فِسْقَ نَفْسِهِ اخْتَلَفُوا فِي
شَهَادَتِهِ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَقْبَلُ شَهَادَةَ الْحَنَفِيِّ
وَأَحُدُّهُ إذَا شَرِبَ النَّبِيذَ ؛ لِأَنَّ هَذَا فِسْقٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ
إنَّمَا الْمَقْطُوعُ بِهِ فِسْقُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ اسْتَبَاحُوا الدِّيَارَ
وَقَتَلُوا الذَّرَارِيَّ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ أَنَّهُمْ فَسَقَةٌ .
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ تُقْبَلُ
شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ مِنْ الرَّافِضَةِ
لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ لِمُوَافِقِيهِمْ فِي الْمَذْهَبِ .
وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا
تُقْبَلُ رِوَايَةُ الْمُبْتَدِعِ وَشَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ بِفِعْلِهِ
وَبِجَهْلِهِ بِتَحْرِيمِ فِعْلِهِ فَفِسْقُهُ مُضَاعَفٌ ، وَزَعَمَ أَنَّ
جَهْلَهُ بِفِسْقِ نَفْسِهِ كَجَهْلِهِ بِكُفْرِ نَفْسِهِ وَرِقِّ نَفْسِهِ”
وقال البزدوي الحنفي كتابه كشف الأسرار
وهو يتكلم عن رواية المبتدع :” وَكَذَا
الْكُفْرُ بِتَأْوِيلٍ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَكَانَ
مُتَحَرِّجًا ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ بِصِدْقِهِ غَيْرُ زَائِلٍ وَكَثِيرٌ مِنْ
أَصْحَابِ الْحَدِيثِ قَبِلُوا رِوَايَةَ سَلَفِنَا كَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ
وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ مَعَ عِلْمِهِمْ بِمَذْهَبِهِمْ وَإِكْفَارِهِمْ مَنْ
يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ ، وَقَدْ نَصَبُوا عَلَى ذَلِكَ فَأَمَّا مَنْ يَظْهَرُ
عَنْهُ الْعِنَادُ فِي مَذْهَبِهِ مَعَ ظُهُورِهِ عِنْدَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَا
يُقْبَلُ حَدِيثُهُ كَمَا لَا يُقْبَلُ حَدِيثُ الْفَاسِقِ بِأَفْعَالِ
الْجَوَارِحِ “
فانظر كيف صرح بتبديع قتادة على أنه قد صح
عن قتادة إثبات القدر وقرنه بعمرو بن عبيد قبيح
فإن قيل : ما موقع الأشعري من هذا ؟
قلت : الأشعري جهمي فوق المبتدع كما قال
الإمام أحمد في اللفظية الذين هم خيرٌ من الأشاعرة ، فقول من يقول ( فلان أشعري من
أهل السنة ) أقبح من قول من يقول ( فلان مرجيء من أهل السنة ) فهو كقول من يقول ( فلان
جهمي جبري من أهل السنة )
وقد ذكرت كلام المتكلمين والمتأثرين بهم
من باب الإلزام وإلا فليسوا معتمدين عندي
والخطيب في عقيدته كلام كثير بينته في
تعليقي على شرق أصحاب الحديث
وكلامه في قبول الرواية عن أهل البدع فيه
نظر شديد من وجوه
أولها : أن عمران بن حطان اجتنبه كثيرون
وما خرج له البخاري إلا حديثاً واحداً متابعة وقد حكي عنه الرجوع
وأما عكرمة فقد تحايده مالك
قال الدوري في تاريخه 792 – قلت ليحيى
كَانَ مَالك بن أنس يكره عِكْرِمَة قَالَ نعم قلت وَقد روى عَن رجل عَنهُ قَالَ
نعم شَيْء يسير
ونص ابن حجر على تحايد مالك لعكرمة
وقد اجتنب مسلم حديث عكرمة ولم يخرج له
شيئاً والأمر بين في ذلك
وقد برأه كثيرون من قول الخوارج كابن معين
وابن نصر والطبري وابن حبان فهو خارج البحث
وأما عمرو بن دينار فما ذكره عنه ما أعلم
أحداً سبقه إليه
وأما ابن أبي نجيح فقد ذكر هو نفسه عن
وكيع تعمده إقلال الرواية عنه ولم يكن معتزلياً وإنما هو قدري ويبدو أن قوله
بالقدر من باب تعظيم الأمر والنهي لا إنكار العلم وهو أن بعض الناس يحتجون بالقدر
على المعاصي فيرد عليهم هؤلاء بنفي ذلك فينفون الحق أيضاً وهذا الضرب من القدرية
أمره أهون من القدرية المعتزلة ونص أحمد على احتمالهم
وجرير ترك ابن أبي نجيح لقوله بالقدر
وأما سلام بن مسكين فعامة من ترجم له لم
يذكر عنه القدر والعقيلي على استيعابه في هذا الباب لم يذكر عنه شيئاً في ذلك
وعبد الرزاق صح أن العباس بن عبد العظيم
العنبري تركه للمذهب
فلا إجماع
ويعترض على الخطيب بترك أهل الحديث لرواية
أهل الرأي واتفاقهم على ذلك حتى أنك لا تجد رواية لأبي يوسف في عامة كتب أهل العلم
وتحرير المسألة أن يقال
أن هناك فرقاً بين كانت بدعته مكفرة
كالجهمية ومن لم تكن بدعته مكفرة كالمرجئة
ثم أن هناك فرقاً في الواقع في البدعة
المفسقة بين المبتدع الداعية وغير الداعية
ثم إن هناك فرقاً بين الرواية والرأي ،
ومن استغنينا عن روايته بعلوم أهل السنة ، ومن اضطررنا إليه
هذا تحرير المسألة
والخلاصة :
أن القول بأن المرء قد يكون مرجئاً ولا
يكون مبتدعاً بدعة
والقول بأن المرء قد يكون أشعرياً جهمياً
ولا يكون مبتدعاً قول خبيث أشد من سابقه ، وقد شنع السلف على من لا يكفر الجهمية
والقول بأن المبتدع لا بد أن يكون ديدنه
البدعة قول مخترع مبتدع
وهنا إلزام هام : حريز بن عثمان برأه أبو
حاتم من النصب وعكرمة برأه غير واحد من قول الإباضية وقتادة برأه غير واحد من قول
القدرية ، ومع ذلك لم يبدعوا لأو يرموا من بالغلو من أثبت عليهم هذه التهم فتأمل
هذا وكيف أن منهج التشنيع على السني في مشكل الحال فضلاً عن المبتدع الصريح كمن صح
عنه وصف المغيرة بن شعبة بالأعور الزناء ( يعني كثير الزنا ) كما فعل الشوكاني
وثبت عليه في أكثر من خمس نسخ خطية لعن معاوية ، وصح في وبل الغمام له وصفه
لمعاوية بأنه طالب دنيا بين أقوام أقتام لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً هذا
مع التصنيف في تفضيل علي على بقية الصحابة ، والقول بقول الواقفة في القرآن
والاضطراب بين التأويل والتفويض
فأين تلك الحمية المزعومة على الصحابة في
شيء سيد قطب ؟!
أم أنها كانت حمية مصطنعة لأغراض خفية
بل أين الغيرة على فقه الصحابة التي ظهرت
في البحث في الأذان العثماني ، والشوكاني من أكثر الناس رداً لآثار الصحابة واشتهر
عنه متابعة ابن حزم في رد آثارهم بل يزيد أحياناً على ابن حزم في الشذوذ كما هو
ظاهر في نيله وسيله ودرره ؟
ثم تأمل كيف أن هدبة بن خالد وصف شعبة
بأنه كان مرجئاً وما كان مصيباً في ذلك ، وكذا يزيد بن زريع وصف الأعمش بأنه كان
سبئياً وما كان مصيباً في ذلك ، وكذا عباس العنبري وصف عبد الرزاق ب( الرافضي )
فأقول من باب الإلزام هل بدعهم أحد وضللهم
بمثل هذا ؟!
فيلزم على المنهج الحادث في ترك تبديع أهل
البدع وتبديع أهل السنة من أجلهم تبديع المتقدمين من السلف أيضاً وعدم تبديع أهل
البدع
وأما من يأتي إلى أعيان الموحدين ويطعن ويظهر الطعن في الوقت الذي لا يطعن فيهم إلا الزنادقة ويبني ذلك على قواعد باطلة فهذا ضال مضل منفر وقد غضب أحمد من كلام الكرابيسي في الأعمش وغضب ابن معين من كلام الفزاري في وكيع فكيف بالكلام المبني على عدم تحرير لبعض المسائل وقواعد باطلة حتى كفر بعضهم عموم القرون الماضية ولا يمكنه أن يأتي بسني واحد حسب مقاييسه بعد القرون الثلاثة بل على قواعده يجب تبديع الكثير من الأئمة فهؤلاء خارج ردنا على المميعة
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه
وسلم